أراء وتحاليلالرئيسية

رؤيتي للإسلام… (28) الإسلام الذي نحبّ و الإسلاموية التي نكره

عندما استعادت الجزائر السيادة على مصيرها في 1962 لم تكن تحوز في جعبتها إلّا على فكرة واحدة هي الوطنية. و قد تمكنت هذه الفكرة من شد حبل الشعب و جعله يلتحم حولها منذ الثلاثينيات إلى غاية الاستقلال، 

بقلم نورالدين بوكروح/ترجمة وليد بوكروح

و شكلت مصدرا كافيا لتحفيزه و إيصاله إلى التحرر من هيمنة الاستعمار. لكن الوطنية ليست منبعا فكريا دائما، فمع تراكم الإخفاقات و خيبة الأمل و التجاوزات المتكررة بعد الاستقلال ارتخى الحبل و تلاشى الشعور الوطني حتى لم يعد يربط الشعبَ بدولته المستقلة.

ما كان الشعب ينتظره بعد الاستقلال هو القليل من الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية و احترام شخصيته. كان يعتقد أن حكامه الذين ينسبون أنفسهم في الخطابات إلى الثورة العظيمة هم رجالٌ شجعان و نزهاء حريصون على خدمة البلد الذي حرروه، حتى اكتشف بمضي الوقت و مع تعاقب الأحداث و الفضائح أن أغلبهم لم يكونوا في الحقيقة سوى مستبدين عديمي الكفاءة مصابين بجنون العظمة و النرجسية، لا يهمّهم شيء غير مصالحهم الفردية.

فتوالت خيبات الأمل  بدءا من السبعينيات، و انقشعت أوهام الشعب الذي صار يتوق صراحةً إلى أشياء أخرى تختلف عن الاشتراكية و الثورة الزراعية اللتان فُرضتا عليه، فأخذ يبحث عن جديد يعيدُ تحفيزَهُ و يمكّنُهُ من وضع نظام اجتماعي و أخلاقي أكثر عدلا في البلاد. هذه هي السنوات هي التي شهدت بداية ظهور الإسلاموية في الجزائر، فخرجت بذلك من نفسيتنا القديمة لتدخلَ في واقعنا السياسي.

حاولت في كتاب نشرته سنة 1997: “الجزائر بين السيئ و الأسوأ” (دار القصبة للنشر) أَن أُبيّن أنّ الإسلاموية الجزائرية هي أيديولوجيةً شعبويةً تَعودُ جذورُها إلى أعماق تاريخنا البعيد. و أن أثرها على نفوس الجزائريين و ذهنياتهم كان أقوى و أعمق من المكتسبات السياسية و السوسيولوجية و الاقتصادية و الثقافية الأخرى، التي تكتلت فيها على مر العصور عبر الاحتكاك مع العالم المتحضر قبل و بعد الإستقلال.

ثم جاءت الإنتصارات الإنتخابية للإسلامويين في تونس والمغرب ومصر لتأكّد هذه الأطروحة التي حصرتها ضمن إطار الجزائر فقط في ذاك الوقت لأنها كانت تشهد ما لم تعرفه الثورات العربية إلّا عشرين سنة بعدها.

عندما نتصفح تاريخ المنطقة نَجدُ بأن رجال الدين هم الذين تصدَّروا في غالب الأحيان طليعةَ الحركات الثورية التي تشكلت للتصدي للاستعمار الأجنبي أو انتفضت ضد الاستبداد المحلّي بأشكاله. و كذلك نلاحظ أنه غالبا ما تسلل وسط هؤلاء “علماءٌ” جهلة و مشعوذون متعطشون للسلطة، متشبعون بروح الانتقام الاجتماعي و تصفية الحسابات.

 وهؤلاء يدركون جيدا السذاجة التي يتميز بها شعبهم و ميله للعاطفية و إذعانه اللامشروط لمقدساته. يعرفون بالغريزة كيف يجب أن يخاطبوه عن عذاب القبر و جهنم و الآخرة ليتحكموا في روحه، و كيف يستعملون النبرة المناسبة لتخويفه و تجنيده. كذلك يحرصون أيّما حرص على التلاعب بالمظاهر لأنهم يعرفون جيدا أن التقدم إلى الجمهور بمظهر الشيخ المتواضع رث الهندام بالي الثياب، بالعباءة و اللحية و “البلغة ” أقرب إلى نفسيته، و أَفيَدُ لهم من التقدم إليه في صورة عقلانية.

عرف المغرب العربي طوال تاريخه سلسلةً طويلةً من “الدّعاة” الذين يظهرون فجأة من العدم ليخطبوا في الناس بعنف و يرافعوا ضد استتباب الظلم و تفشي الفساد و الانحلال الأخلاقي و ترك الدين، و يحثوهم على “العودة إلى المنبع”. ثم ينقضون على الدولة من خلال دعوة الجماهير إلى إسقاطها و إقامة “الدولة الإسلامية” التي ستحكم وفقا للتشريع الإسلامي و تعرف كيف تفرض العدل و المساواة. لكن ما أن تسقط تلك الدولة حتى يسارعون بإقامة سلالة حاكمة جديدة تدوم لبعض الوقت لكن سرعان ما ينتفض ضدها “شيخ” أو “مهدي” آخر و يواجهها بنفس الحجج، و هكذا دواليك عبر التاريخ.

قبل اثني عشر قرنا جاء “ميسرة” و هو حمّال ماء من الخوارج، ليحشد جيشا شعبيا هاجم به أول خلافة عربية قامت في المغرب العربي (الأغالبة) ثم ينصّب نفسه خليفة بعد الانتصار عليها. ثم جاء داعية آخر، أبو عبد الله، و هو شيعي إسماعيلي جلبهُ بعض حجيج كتامة من الحجاز ضمن متاع سفرهم ليعلّمهم “الإسلام الحقيقي”، و أقام خلافة الفاطميين على أنقاض مملكة الرستميين.

بعد ذلك جاء الدور على الميزابي أبو يزيد، الملقّب ب”ذي الحمار”، في إعلان الجهاد ضد دولة الفاطميين. و قد كتب عنه ابن حماد و هو مؤرخ عاش في تلك الحقبة ما يلي: “عندما بدأ يدعوا الناس إلى التمرد كان يحمل عصا لا تفارق يده و لم يكن يلبس غير الصوف الخشن، لا يملك في الدنيا متاعا غير لقب الشيخ الذي يتقلده. أما في ما بعد فلم يعد يلبس إلا القطيفة و الحرير، و لا يمتطي إلا الخيول الأصيلة… شَجَّعَت القسوة التي عُرفَ بها أتباعَهُ من البربر ليذبحوا دون هوادة أو شفقة كلَّ من وقعَ تحت رحمتهم” (محفوظ قداش: جزائر القرون الوسطى)

ثم أتى ابن تومرت مؤسسُ خلافة الموحدين، الذي استورد من المشرق الأفكارَ الأشعريةَ التي بقيت إلى اليوم تغذي الخطاب الإسلاموي. فنسب لنفسه صفة “المهدي” في 1121م و بدأ في الدعوة لإسقاط دولة المرابطين التي كانت تهيمن على المغرب العربي. وقد اشتهر ابن تومرت وقتها بفتواه بأن: “طاعة المهدي من طاعة الله”، و بأن جزاء كل من خرج عنها القتل الذي كان كذلك جزاء تارك الصلاة. هو أيضا الذي منعَ اختلاط النساء و الرجال في الشارع و كان أحيانا يضرب المخالفين لذلك بنفسه.

لقد عُرفَ أسلافُنا الأمازيغ منذ قديم الزمان بسرعة تأثر نفسيتهم بالأفكار المتشددة و المعارضة للثراء و الرخاء و الترف. و هذا ما جعل منهم عبر التاريخ طرفاً فاعلاً في جميع حركات التمرد و الانشقاقات الدينية التي عرفتها المنطقة منذ قرون ( السيركنسليون و الدوناتيين في عهد الرومان، الشيعة و الخوارج في الإسلام…). و ذلك أيضا ما دفعهم لإتباع الإمام ابن رستم و الإمام يعقوب و الإمام عبيد الله و الشيخ أبو يزيد.. الخ.

ضف إلى ذلك أن رجال الدين هم أيضا الذين قادوا الحركات الثورية التي انتفضت ضد الاستعمار في المغرب العربي: عمر المختار في ليبيا؛ الأمير عبد القادر، بومعزة، بوبغلة، الشيخ الحداد، المقراني و بوعمامة في الجزائر.

لهذا السبب سعى زعماء الحركةُ الوطنية التي تشكلت لمواجهة الاستعمار في القرن العشرين ليحلّوا محلّ الشيوخ في المخيلة الشعبية، و حرصوا على إحاطة شخصياتهم بنفس المظاهر و الحماس اللذان يتمتع بهما هؤلاء ليضمنوا تجاوب الشعب معهم. يقال أن بعض العائلات لا زالت تحتفظ ببعض شعرات لحية مصالي حاج إلى يومنا هذا و تحافظ عليها مثل التحف القيمة و تعتبرها مصدرا للبركة.

و شهدَ بروزُ التيار الإسلامي السياسي نهايةَ الثمانينيات عهد الرجوع إلى إتباع “الدعاة” و الشيوخ و الأمراء كما جرت العادة منذ قرون، حتّى وصلَ الأمر إلى النتيجة الحتمية التي لا مفر منها و هي الدعوة للتمرد على دولة “الطاغوت” و إسقاطها و إقامة الدولة الإسلامية على أنقاضها.

 حاولوا أن تتذكروا ما كانت عليه ساحتنا السياسية قبل عشرين سنة و تأملوا جيدا في الشخصيات التي كانت تُكَوّنها: كم من “ميسرة” أو من “ذي الحمار” سيعودُ إلى ذاكرتكم؟ عشرة، عشرون؟ لاحظوا جيدا و احذروا أن تغرّكم البذلة الإيطالية و ربطة العنق عند بعضهم، فتلك مجرد ملابس عمل و ثياب تمويه.

تُرى لمن يعود الذنب فيما يحدث حاليًا في العالم العربي؟ لشُعوبه التي “يجمعها البندير و تفرّقها العصا” كما وصفها بن باديس في عصره، أم للمؤامرات الافتراضية؟ بالنسبة لنا نحن يمكن أن نجد لأنفسنا بعض الظروف المخففة: فقد كان أغلب الجزائريين إبّان الاستعمار أميين، و الوسائل التي جندتها جمعية العلماء المسلمين لم تكن كافية لتربية المجتمع بأكمله. من جهة أخرى كانت السلطات الاستعمارية تحرصُ على تشجيع الشعوذة و تمويلها.

لكن المجهودات التي بذلتها الجزائر المستقلة أيضا لتعليم المجتمع (تعليمه و ليس تربيته) لم تتمكن بدورها من تغيير الوضع تغييرا جذريا. فما أن جاءت أوّلُ انتخابات حرة و نزيهة في 1990 (البلديات) حتى استحوذ الإسلاميون على الحصة الكبرى من نتائجها. و كذلك كانت الأمور في تونس، أين لم يصدق أحد كيف كَنَسَت أوّلُ انتخابات حرة نُظّمَت على عَجَل بُعَيدَ ثورة 2011، مسيرةَ ستين عاما من التربية و التعليم قادها بورقيبة ثم بن علي بعده.

لقد أخطأ التونسيون عندما ألقوا باللوم على قطر لتمويلها المفترض لحزب النهضة، أو لوجود تلاعب في تنظيم الاقتراع، فهذه التفسيرات أتت فقط من هول الصدمة التي أحدثتها في نفوسهم النتائج. الضربة لم تأت من الخارج بل من الداخل، من الأعماق التي لم تُستَكشَف داخلَ شخصية الشعب التونسي. و ما الذي يمكن قولُهُ عن مصر التي ذهبت فيها 85 بالمائة من الأصوات (ما عدا الأقباط) ليس فقط للإخوان بل لكل ما تلون بالأخضر.

يجب أن ندرك أن الهوس بالإسلاموية (الإسلامو-مانيا) لم يلد من رحم ثورات الربيع العربي و أنه أَقدَمُ منها بكثير. كما يجب أن يثير التكرارُ المستمر لنفس الظواهر على مر التاريخ، انتباهنا. لا يمكن أن تغاضي عنه أو نجتنب التفكير و التأمل فيه، و هذا العدد الكبير من الأحداث المتشابهة لا يمكن أن يكون وليد الصدف، بل لابد من وجود ميكانيزما فاعلة وراء تكرار تجاربَ مماثلة، في حقب زمنية مختلفة، و من بلد عربي-مسلم لآخر.

قد يعتقد البعض أنّي أُلمّحُ منذ فترة إلى كون الذنب يرجع للدين وأنّي أقترح إبعاده عن الحياة العامة. لكن لا، فما أريد أن أقوله بكلّ وضوح و صراحة هو أن الإسلاموية ليست الإسلام بل هي انحراف عنه، و مصيبةٌ حلّت على الإسلام و المسلمين، يُحسَبُ عليها مئات آلاف الضحايا المسلمين في الجزائر ومصر وأفغانستان والصومال والعراق، ناهيك عن ضحايا الجنسيات والمعتقدات الأخرى ممّن لقوا حتفهم في الهجمات الإرهابية. لقد سبق لها و قسّمت السودان وفلسطين إلى نصفين و هي الآن تهدّد سلامة شعوب و أقاليم عدة بلدان أخرى، و كلّ هذا خلال عقدين من الزمن فقط.

الإسلام الذي نؤمن به و نحبّهُ ونتمسّك به هو الإسلام الذي اقترحه الله تعالى على البشر “تَذْكِرَةٌ ” بما سبقه من الوحي الإلهي الذي جاء ليختمه إلى الأبد. إنّه الإسلام الذي يعترف بالأديان الأخرى و أنبيائها، و التي يحثها جميعًا إلى “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ …”[آل عمران :الآية 64].هو كذلك الإسلامُ الذي اختار محمدا رسولا لله خاتماً لكن دون أن يهَبهُ مكانةً مقدسة.

و هو الذي يعلّمنا أن “مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا”، و هو الذي تجسده هذه الأحاديث النّبوية و أخرى: ” إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مكارمَ الْأَخْلَاقِ” ؛”… فإنما بُعِثتم مُيسِّرين ولم تُبعثوا مُعسرين”؛ ” إن خير دينكم أيسره” ؛ و هو كذلك دينُ بعض العبارات الإنسانية الخالدة مثل: ” لا تربوا أولادكم كما رباكم آباؤكم، فقد خلقوا لزمان غير زمانكم” (منسوبة لعلي بن أبي طالب).

إنه الإسلام الذي جسّده الرسول في علاقاته مع المسلمين وغير المسلمين كما يتجلّى في مواقف و أمثلة عديدة و منها: تسبب شخص يدعى هبار في وفاة ابنة الرسول صلى الله عليه و سلم زينب عندما أسقطها من أعلى جمل وهي حامل. عندما اعتنق الإسلام في اللحظة الأخيرة قال له النبي: “قد عفوت عنك…”. كما عفى عن وحشي، العبد الذي قتل عمّه حمزة في معركة أحد و مزّق كبده ليعطيه لوالدة معاوية، و ذلك بعد أن طلب منه أن “ما يستطيع أن يغيّب وجهه عنه”.

 ذلك أنّ الرسول في وقت الأحداث و أمام هذا الفعل الهمجي كان قد أطلق العنان لغضبه الإنساني و توعّد قريش قائلا: “…لأُمَثِّلَنَّ بسبعين منهم”. فغزوة أُحُد التي وقعت عاماً بعد غزوة بدر كانت بمثابة الكارثة على المسلمين الذين كانوا أقل عدداً من مشركي قريش، فوعد النبيّ حينها الأنصار بالانتقام: ” لئن أصبنا منهم يومًا مثل هذا لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ”. لكن عند فتح مكة نزلت هذه الآية ” إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ” [النحل: 126] “.و في موقف آخر قال الرسول: “…إن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة “.

و دافع في مناسبة أخرى أمام صحابته عن عكرمة، ابن أبي جهل عدوه اللّدود بقوله: ” يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذى الحيّ ولا يبلغ الميت “. و عندما توفي عبد الله بن أبيّ ابن سلول سنة 631، و هو كبير المنافقين و رأس حزب القبائل المتحالفة ضد الإسلام، صلى عليه الرسول ودفنه بنفسه.

كما قال معارضًا لكل محاولة لتقديس شخصه: “إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ “. النبي بنفسه قال ذلك، لكن جرّب أن تقول لأحد الإسلامويين أنه لم يكن معصوماً من الخطأ و ستكون أنت حتماً معرضاً للخطر.

الإسلام الذي نحبه و نؤمن به هو ذلك الذي يزدهرُ تاريخهُ بالمئات من أمثلة التسامح و الطيبة و العفو التي ضربها الرسول طوال حياته و رسالته. إنه دين “دار الحكمة” و علمائها الحقيقيين الذين ترجموا أعظم ما أنتجته الحضارة الإغريقية من الأفكار. و دين المعتزلة، و ابن سينا، و ابن طفيل، و ابن رشد، و ابن خلدون و غيرهم.

هو الإسلام الذي برز في تاريخه أعظمُ القادة العسكريين في زمنهم و الذين جمعوا بين فنون الحرب و الشجاعة، وبين الثقافة و الشهامة و الإيثار. مثل عمر بن عبد العزيز الذي تخلى طواعية عن السلطة التي وصلت إليه بالوراثة، أو صلاح الدين الأيوبي، الكردي الذي أرسل طبيبه ليعالج عدوه الملك ريتشارد قلب الأسد، و لم يترك من ثروة عند وفاته غير الكفن الذي دفن فيه.

هو دينُ الأمير عبد القادر و الكواكبي و محمد إقبال و علي عبد الرازق و بن باديس و مالك بن نبي… و دين محمد عبده الذي خاطب علماءَ الأزهر يوماً قائلا: “من لا يُتقن واحدةً من لغات العلم الأوربي على الأقل، لا يستحق أن نلقّبه بالعالم”. هذا هو الإسلام الذي ربّانا عليه آباءنا و أجدادنا و أسلافنا قبلهم، و الذي عشنا به طيلة قرون في التآخي و الفرح و التسامح رغم اختراقه من الشعوذة التي ظلّت تعيش متطفّلة عليه. أَيُّ إنسان و أيُّ شعب يمكنه ألا يحب هذا الإسلام؟

هذه الأمثلة الرائعة و الموجودة بالمئات والآلاف في جميع القارات و على مر القرون، و هذه العظمة في الروح و الحسّ الإنساني هم ما جعلَ من الإسلام واحدا من أجمل المثل التي اقتُرحت على الجنس البشري. و كونه لم يتم إدراكه بالكامل أو لم يُترجم دائمًا إلى فلسفة للحياة اليومية وإلى مؤسسات اجتماعية دائمة هو أمرٌ لا يمكن الأخذ به كحجّة ضده أو كسبب للتشكيك فيه.

فقد سمح لغير العرب بممارسة الخلافة و لغير المسلمين بأن يكونوا وزراء ومستشارين ورجال ثقة ضمن السلطة. كما جعل قانون الحرب أكثر إنسانية، وحسّن وضعية المرأة و ألغى التمييز على أساس اللون، وسمح بحرية الرأي و التعبير … لم يطلب الكثير من البشر، وعندما طلب منهم فإنه راعى على أكبر قدر طبيعتهم: ” ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، و ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم…”

على عكس هذا الإسلام الذي نعزّه، هناك الإسلاموية التي نمقُتُها والتي يبدو أن الرسول تنبأ بقدومها بقوله:” يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم. يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة…”.

و ربما كان كذلك يقصد نفس الفئة حينما قال: “أجرئكم على الفتوى أجرئكم على النار”.يبقى من الأصحّ أن تطبّق على الإسلاموية مقولة الفيلسوف الألماني نيتشه المعروفة: “الإيمان لا يحرك الجبال بل يضع الجبال حيث لا توجد”.”

إبّان ملتقيات مالك بن نبي التي كان ينظمها بين عامي 1970 و 1973، كنت ألاحظ إلى أيّ مدىً كان بعض الذين يحضرون للاستماع إليه يمثلون النفي القاطع لفكر الرجل. و بما أني لم أكن أشترك معهم في شيء فقد أصبحت أمثل في أعينهم وكأنّني “علماني”. أغلب هؤلاء انتقلوا فيما بعد إلى الإسلاموية. هناك أيضا تعرّفت على المرحوم محفوظ نحناح، الذي عشية إنشاء حركته عشرين عامًا بعد ذلك، طلب مني عدة مرات أن أنضمّ إلى مشروعه، لكني رفضت عرضه بأدب واتّخذت طريقي الخاص.

و خلال السبعينيات والثمانينيات كنت أكتب في الصحافة دفاعا عن الإسلام من تجاوزات الإيديولوجية الاشتراكية الماركسية، فألصقت بي في تلك الفترة و بسبب ذلك بطاقة “الإخوان المسلمين”.

بمجرد إعلان نتائج الدّور الأول من الانتخابات التشريعية لديسمبر 1991 التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، دُعيت للانضمام إلى الذين شرعوا في التحرك لإيقاف المسار الانتخابي لكني رفضت أن أتبعهم في تلك الطريق. و قد يتذكر رئيس الحكومة آنذاك السيد سيد أحمد غزالي ما قلته له ذلك المساء في مكتبه على نبرة المزاح و بحضور المرحوم العربي بلخير: “من الممكن أن يحدث لك ما حدث لشابور بختيار”.

في الأيام التالية اتخذت موقفي علنا  وكتابيا ضد هذا الإجراء الذي كان قيد التحضير، و رافعت من أجل احترام صوت الشعب و السماح بانعقاد الدور الثاني. كما اقترحت أن يُسمَحَ للجبهة الإسلامية للإنقاذ بالفوز بالأغلبية البرلمانية وتشكيل الحكومة و أضفت أنها، إذا ما تجرّأت على المساس بالدستور أو الحريات العامة أو الطابع الجمهوري والديمقراطي للدولة، فسيصبح  منعها بكل الوسائل من ذلك شيئاً مبرّرا و مشروعا. فأصبحت بعد ذلك أوصف بأني “إسلاموي معتدل”، رغم أنّني لو كنت بالفعل إسلاميًا ليوم واحد في حياتي لما أمكنني أن أكون معتدلا إذ لا يوجد من بين الإسلامويين المعتدلون.

شهرين بعد ذلك كان الرئيس الراحل بوضياف يستقبل قادة الأحزاب السياسية، بمن فيهم رفاقه السابقون في ال CRUA  بن بلة و آيت أحمد. طال الحديث بهؤلاء في وقت ما حول ذكرياتهم المشتركة عن جزائر الأربعينيات، و عندما جاء دوري في الكلام قلت له: “سيدي الرئيس أنّك غريب عن الأزمة … إنّ أبناء جزائر اليوم يؤمنون بقيم أكتوبر أكثر من قيم نوفمبر…”، و هو الكلام الذي أثار حفيظة بعض من كانوا يجلسون حول الطاولة.

باختصار قام بعدها الرئيس بوضياف بإخبارنا أنه دعانا ليعلن لنا أنّ “قرارا مهما” قد اتُّخذ، لكن دون أن يطلعنا على محتوى ذلك القرار. فقمت بمجرد خروجي من مقرّ الرئاسة بعقد مؤتمر صحفي صرّحت فيه بأننا لا نستطيع الموافقة على قرار أُريد منّا أن نشترك فيه دون أن نعرف طبيعته. و قد كان هذا القرار هو حلّ الجبهة الإسلامية للإنقاذ الذي أُعلن عنه مساء نفس اليوم على شاشة التلفزيون الوطني.

يجب أن أشير إن وجب ذلك إلى أن مواقفي تجاه الجبهة الإسلامية الإنقاذ لم يكن يمليها بأي حال من الأحوال تعاطفي مع أفكارها، بل جاءت دوماً انطلاقاً من قناعاتي الديمقراطية وسعياً لأظلّ متناسقا مع ذاتي و مساري. لقد آمنت وسأؤمن دومًا بالديمقراطية، لكن دون أن أتجاهل من جهة ثانية الطبيعة غير الديمقراطية لجزء كبير من مجتمعنا و كذلك للقبضة المحكمة للـ “الإسلامو-مانيا” على ذهنياتنا.

 لو حدث و أُجريَت اليوم انتخابات رئاسية حرّة فإن الخطاب الأكثر كراهية وعدمية والأقل ديمقراطية هو الذي سيفوز حتما بقصر المرادية. الجميع يدرك ذلك في قرارة نفسه لكن أحداً لا يجرؤ على الجهر به علناً. و نفضّل بدل ذلك الاستمرار في خداع بعضنا البعض، ونعتقد أن مثل هذه اللعبة هي ذروة الذكاء “السياسي”.

منذ اعتماد الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم أكفّ عن انتقادها، ليس خفية مثل الكثير، بل في مقابلاتي الصحفية وبياناتي الرسمية. ما اعتقده وأكتبه اليوم عن الثورات العربية ونتائج الانتخابات التي تلتها هو بالضبط ما كنت أفكّره و أكتبه و أدافع عنه آنذاك: و هو حتمية أن يتمّ رفع الرّهن الإسلاموي عنّا، و أن يُبعَدَ عن رؤوسنا السّيف الذي تسلّه فوقها.

لا توجد أيّ وسيلة أو طريقة فعالة ودائمة أخرى غير السماح للإسلاميين بالحكم عندما يحصلون على تأييد الأغلبية، لكن مع الحرص على ضمان حماية الحرّيات العامة والإطار الجمهوري والديمقراطي للحكم. و في حالة كهذه، و إن كان من اللازم لحرب أهلية أن تندلع فسيكون ذلك من أجل قضية صحيحة، و كنا سندخلها جميعًا مقتنعين بضرورتها و صحتها. هكذا فقط يمكن أن يزول الانسداد من تاريخ العالم العربي الإسلامي وليس بأي طريقة أخرى.من الواضح أن المشكلة تكمن في الشعب و الكتلة الانتخابية وليس في دولارات النفط السعودي أو القطري.

خلال جلسات الحوار الوطني الذي بادر به و قادهُ الرئيس اليامين زروال عام 1994، كنت من بين جميع المشاركين ذلك الذي عارض الأكثر مسودة البيان الختامي، لأنه كان يحتوي على فقرة تضع عمليّا على قدم المساواة العنفَ الإرهابي مع العنف المضاد الآتي من الدولة. و أتذكر اشتباكاً جمعني بالمناسبة مع المرحوم عبد الحميد مهري الذي قال في وقت ما: “تذكرني هذه الجلسة بمناقشات CNRA عام 1962 في طرابلس”. فأجبته : “يا سي مهري، أنتم لم تتمكّنوا من حلّ المشاكل التي كانت مطروحة أمامكم آنذاك، و هذا هو سبب وجودنا اليوم في الوضع الذي نوجد عليه”. و ضحك الجميع بعدها ممّا أدى إلى تخفيف مزاج القاعة.

في الشهر الموالي سافرت إلى روما بدعوة من جمعية سانت إيجيديو. و هناك و أمام الصحافة الدولية، اعترضت على عقد اجتماع مثل ذاك بين أطراف المعارضة الجزائرية في الخارج، و ابتعدت علناً عن موقف بعض ” شخصياتنا التاريخية”، الذين وصفوا خلال الندوة الإرهابَ بأنّه “حركة مقاومة”، و تبنّى نحناح أيضا نفس موقفي.

أُجهضَ المؤتمر نتيجة ذلك و كان لا بد من استدعاء لقاء ثان (لم تتم دعوتي إليه) انتهى بالتوقيع على “عقد روما” الشهير. و منذ ذلك الحين لم أعُد أُوصَفُ بالإسلامي المعتدل ولا بالعلماني لكن أصبحت “عميل للدياراس”. أمّا اليوم و بعد عشرين سنة من هذه الأحداث فإني أشكر الله من جهة، والتاريخ من جهة أخرى لأنه أظهر بأني لم أكن على خطأ. و هذا هو ما يسمح لي اليوم بكتابة ما أكتب دون أن أخشى بأن يُعتَرَضَ عليّ بشيء كتبتُهُ من قبل أو بموقف اتّخذته في الماضي. ليسوا كثراً من يمكنهم مواجهة مثل هذا التحدي.

 يبدو أن الرسول صلى الله عليه و سلم يكون قد تفضّل على الأمازيغ ببعض العبارات الجميلة. فيكون قد قال ذات يوم لعمر رضي الله عنه بخصوصهم:

 ” لأنبأنّك يا عمر فإن الله سيفتح بابا للإسلام في المغرب، قوم يعز الله بهم الإسلام و يذل بهم الكفر، أهل خشية و بصائر يموتون على ما بصروا ليس لهم مدائن يسكنوها و لا حصون يتحصنون بها و لا أسواق يتبايعون فيها”.

كما يكون قد عاد قبل وفاته ببضعة أشهر إلى الموضوع قائلاً: ” يا أهل مكة ويا أهل المدينة أوصيكم بتقوى الله والبربر فأنهم سيأتونكم بدين الله من المغرب، وهم الذين يستبدل الله بكم “. (عن ابن حماد، نقلاً عن محفوظ قداش في “جزائر العصور الوسطى”).

 فهل تحققت هذه النبوءة بفتح إسبانيا وتأسيس القاهرة و إقامة خلافة المرابطين والموحدين و غيرها من الإنجازات التي تزن في ميزان أسلافنا، أم أنها تتعلق بأحداث لم تقع بعد؟

« Le Soir d’Algérie »  04 مارس 2012

“جريدة الشروق اليومي” 27 سبتمبر 2015

جريدة الحوار الجزائرية 27 أكتوبر2016

موقع الجزائر اليوم 07 جوان 2017

ملاحظة: نُشِر هذا المقال سابقا تحت عنوان “من أين جاء الإسلاميون ؟ “

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى