أراء وتحاليلالرئيسيةبين الفكر والسياسة

للإسلام… (20) انقلابات فانقلابات…

ليس لهاوي التاريخ وأسرار الأمم والملوك الذي ديدنه البحث عن كل ما  يتكرر ويتشابه في الكيانات الاجتماعية الكبرى، إلاّ أن يطرب بمعرفة أن الحضارة الرومانية والحضارة الإسلامية تشتركان بغرابة في حقيقة كونهما عاشتا أزمتيهما اللتين عصفت بهما باغتيال رابع خلفائهما: تاركين (Tarquin) وعلي بن أبي طالب.

بقلم نور الدين بوكروح/ ترجمة  فضيل بومالة

بعد وفاة روميليس (Romulus) الذي أسس روما سنة 753 قبل ميلاد المسيح وقادها مدة 37 سنة، خلفه، في حالة من في السلم والوفاق، رجال اختارهم الشعب على أسس استحقاقهم وفضائلهم، هم على التوالي: نوما بومبيليوس (Numa Pompilius)،  وتيليس هوستيلييس (Tullus Hostilius) و أخيرا تاركين (Tarquin) يوناني اعتنق الدين الروماني.

و قد كان نظام الحكم تحت إمرتهم موحدا وقويا وعادلا، وقد كانت صلاحياتهم دينية ودنيوية في آن واحد. كانوا يستشيرون مجلس الشيوخ (Sénat)، تلك الهيئة التي كانت تمثل العائلات المجتمعة في شكل قبائل ويحكمون دائما بالرجوع إلى أعراف القدامى (Mores Majorum) والتي يمكن أن نترجمها اليوم في أرض الإسلام بالعودة إلى “السلف”.

وقد اغتيل “تاركين” في السنة الثامنة والثلاثين من حكمه حيث تنكر له سيرفيوس تيليوس (Servius Tullius) ذلك الخادم الذي قربه وكفله في بلاطه ومجلسه، و إحتال من اجل ولاية العرش ضاربا برأي الأُمة عرض الحائط حيث لم تختره ولم تنتخبه.

 وقد جعل نظام الحكم نظاما وراثيا، وعين لخلافته بعد عشرين سنة، ابنه ساكستيس (Sextus) و لم يكن جديرا بها. أخبر شيشرون (Ciceron) وهو عظيم خطباء الرومان الأجيال اللاحقة في كتابه الشهير “عن الجمهورية أتحدث” انه: “هنا تبدأ سلسلة الثورات التي أريد أن تدركوا خلفيات وخبايا حركتها الطبيعية والمراحل التي مرت بها منذ البداية.

و في سنة 632 م، لحق النبي محمد صلى الله عليه وسلم بربه بعد أن أقام دعائم الدولة الإسلامية في المدينة عشر سنوات قبل ذلك. و قد عادت الخلافة بصفة طبيعية وسلمية إلى أبي بكر، فعمر، ثم عثمان، و أخيرا علي، رضي الله عنهم جميعا.

 وحينما اغتيل هذا الأخير تباعا للأحداث التي اشتعلت نارها في كل البلاد مع تمرد معاوية بن أبي سفيان، حاكم دمشق، هذا الأخير انتهز الفرصة و استولى على الحكم عنوة ومكيدة ونقل العاصمة من المدينة المنورة إلى دمشق و أعلنها نظاما ملكيا. وقد حكم كما سرفيوس تيليوس عشرين عاما وعين لخلافته ابنه يزيد الذي كان يعرف بـ “العربيد”.

لقد امتد عهد الخلفاء المسلمين الشرعيين الأربعة على مدار أربعين سنة ودام حكم الخلفاء الرومان الشرعيين الأربعة ما يقارب القرنين من الزمان. والمعلوم أنّ كلا الأمتين كانت في بداياتها الأولى عبارة عن قبائل حولتها” المقدسات المشتركة” (Communio Sacrom) بالنسبة للأولى، والإسلام بالنسبة للثانية إلى “جمهورية للأخلاق و الآداب” حيث كان همها الكبير هو كيفية اعتناق مواطنيها للفضائل العامة بدل تعليمهم الخنوع أمام سلطة القوة.

ولكن عجائب التاريخ اقتضت أن يقترن تطورهما بسلسلة طويلة من الأزمات والإقتتال في الداخل وبانجازات كبرى في الخارج. و الأمر أنّه في عصور الحضارة، حتى المستبدين والطغاة تحركهم دفعة التحضُر، ونظرا لحماسهم الكبير للمسيرة العامة لإمبراطوريتهم وفخارهم بمآثر هؤلاء وأولئك في هذا الميدان أو ذاك، تراهم يعضّون على قيادة تلك الحركة بالنواجد.

وبالطريقة نفسها التي رأى فيها شيشرون الإنقلاب لسيرفيوس سببا رئيسيا وعميقا من أسباب انهيار الروح الرومانية، رأى مالك بن نبي في معركة صفين بين معاوية وعلي سنة 657 م، والتي ذهب ضحيتها 40.000 قتيلا –حسب الطبري- (والرقم كبير جدا إذا ما علمنا أنّ عدد المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم كان يقدر بـ 124.000 تقريبا)، نقطة انطلاق لانقلاب القيم الإسلامية وللقطيعة مع العقد الأخلاقي التاريخي المبرم في ظل النبي صلى الله عليه و سلم.

 وقد كتب في “وجهة العالم الإسلامي”: “إنّ تلك القطيعة كانت تحمل في أحشائها مخاضات كل القطائع المقبلة وكل التناقضات السياسية داخل الإسلام… و إذا ما تأملنا الظاهرة من بابها السياسي فقط، فان تلك القطيعة الأولى كانت واحدة من الأزمات التي تغير عبر التاريخ مجرى الإطار المؤسساتي لبلد ما. ولكن يأتي بعدها الوقت الذي لا تجد فيه أثرا لأيّ شخص يريد التمسك بالسلطة أو الاستيلاء عليها أو تكييفها مع المؤسسات الجديدة، وحينئذ تسقط سلطة الملك من تلقاء نفسها وتنكسر كما القوارير أجزاءا أجزاءا فيلتقطها صغار الملوك“.

وذلك ما ثبت وتأكد عبر الأيام حتى وان ظلت كلا الحضارتين تواصل سيرها بسرعة دفعتها الأولى، وحققت طوال القرون التي صمدت خلالها انجازات كبرى في المجال العسكري والفكري والمعماري والأخلاقي. و لكن وكأن فيروسا تسلل إلى أجهزتها المناعية وحطم خلاياها الواحدة تلوى الأخرى دون أن تشعر به إلى أن سقط الجسم كله صريعا فاقدا للحياة.

و لقارئ الطبري أن يتجلد ويتحلى بالشجاعة حتى يستطيع قراءة رواياته المتعلقة بالجرائم التي ارتكبها مسلمون ضد مسلمين آخرين تدمي القلب وتشل العقل وتبكم اللسان.

و ستكون شخصيات أخرى من كبار شخصيات الإسلام شاهدة على الأوقات الحاسمة في انحطاط واحتضار البطيء للإمبراطورية الإسلامية. فهذا ابن تيمية سيعيش نهب وسلب التتار لدمشق في القرن الرابع عشر، وهذا ابن خلدون سيرى بأم عينيه نفس الحدث في  بغداد على أيدي تيمورلن (Tamerlan).

وسيعيش المؤرخ الروماني تاسيت (Tacite) من جهته صدمة نفسية استمرت معه إلى آخر أيامه، من جراء تقتيل أربعة أباطرة في سنة واحدة، ولم يستطع أن ينجز عمله كمؤرخ إلاّ بكثير من العناء. ومنذ الصفحات الأولى لكتابه: ” شذرات من التاريخ” كتب: “إنّي أباشر عملا خصبا بالرزايا والكوارث والمعارك الفظيعة والفتن وشتى أنواع العصيان والتمرد حيث للسلم أيضا ويلاته و أهواله…”

أما مونتسكيو( Montesquieu) الذي اهتم بدراسة الأمتين، كتب قائلا عن استبداد القياصرة الإثنا عشر (Les Douze Césars) (الاسم الذي حكم به الأباطرة الإحدى عشر الذين جاؤوا بعد يوليوس قيصر (Jules César) والذين قضى تسعة منهم نحبهم بحد السيف): “لقد بلغت كل الضربات الجبابرة والطغاة ولم تبلغ أبدا الجبروت والطغيان”. وقال عن موضوع الصراعات على السلطان والملك في بلاد الإسلام: “لقد تنافس زعمائهم على الخلافة، ولم تنتج نار حماسهم سوى الفتن بين الناس“.

وحتى نتمثل أثار تلك الأحداث على الشعوب والحضارات التي عاشتها بلحمها ودمها، يجب أن نتخيل على سبيل المثال رد فعل الأمريكيين لو ردّ الجنرال كولين باول (Colin Powell) عندما أقيل من منصب قيادة أركان الجيوش الأمريكية على ذلك القرار بـ…انقلاب عسكري، فينجر عنه حل مجلس الشيوخ والكونغرس و إحلال أسرة حاكمة محلهم ومنع إجراء أيّ انتخابات!

ما الذي كان سيبقى من الولايات المتحدة الأمريكية أو أيّ امة متحضرة أخرى في ظرف مماثل أسبوعا بعد مثل تلك الانتهاكات للقانون و الأخلاق؟ ذلك لم يحدث في الولايات الأمريكية وحدث للأسف للمسلمين ثلاثين سنة بعد وفاة نبيهم وللرومان مائتي سنة بعد وفاة روميليس.

ولكن إذا كان الرومان قد صمدوا رغم ما حدث إلى غاية سنة 27 قبل الميلاد في ظل نظام سياسي ضعيف، فإنّهم قد ابقوا على الأقل على إمكانية اختيار وانتخاب حكامهم. بينما لم يعرف المسلمون ذلك يوما واحدا منذ سنة 661 م. لانّ الاستبداد لم يفسح المجال أمام الإسلام حتى يؤسس نظامه السياسي. و لم يهتم العلماء- إلاّ من رحم ربك وهم قلة- بشحن الشريعة بقانون عام ودستوري.

إنّ مشروع المجتمع الإسلامي كان مسموحا به على المستوى النظري حيث كان يعلم في المدارس ويدرس في المساجد ولكن كحلم ومثل عليا فقط، لأنّه كان ممنوعا من الانجاز والتحقيق.  الرومان حافظوا إلى آخر لحظاتهم على مظهر تنظيم ديمقراطي في حين اكتفى الحكام المسلمون باستعمال القوة وشراء ذمم العلماء حتى يستمروا في استبدادهم الذي أصبح ثقافة ورسالة جينية…

حتى تحقق المؤسسات أهدافها من حيث المردود والفعالية، يجب أن تتماشى وروح الأُمة التي تريد أن تزرعها في أرضها، كما يجب أن تكون الانعكاس الحقيقي للقيم السارية المفعول في المجتمع المعني بها، و إلاّ فستكون كالسراب يحسبه الظمآن ماءا. وينطبق ذلك أكثر على هيئات إدارة شؤون الأُمة.

 إنّ القوة لم تكن أبدا قاعدة للقانون وحيثما تأبط شعب رأسه بسبب الصعوبات كان ذلك حتى لا ينشغل إلاّ بمصيره الخاص و مستقبله وينقطع عن كل ما سواها، سجل جان جاك روسو(Jean Jacques Rousseau) في كتابه “العقد الاجتماعي” (Le Contrat Social) : “إنّ كل ما يفسخ الوحدة الاجتماعية ويزعزعها لا قيمة له، وكل المؤسسات التي تجعل الإنسان يناهض نفسه لا قيمة لها“. و هكذا ومنذ الانقلاب الأموي، بقي الإسلام عالقا بين الذكرى الأبدية والتحقيق المستحيل.

عكس الرومان الذين، بزوالهم كحضارة وبانصهارهم في أخرى، تحرروا من مشكلة ضرورة التكيف في عالم لم تلده عبقريتهم. لقد بقي المسلمون يواجهون تناقضا خطيرا: من جهة لم يستطيعوا أن يندمجوا نهائيا في حركة التطور التاريخي، ومن جهة أخرى لم يقدروا بعد على تحديد نظام حياة إجتماعي وإقتصادي وسياسي يليق بهم ولا يتعارض واعتقاداتهم.

لا يهتم مواطني غالبية الدول الإسلامية بأنظمتهم السياسية، لان المواطنين لا يرون في تلك الأنظمة تطابقا لا مع النموذج المثالي الذي يسكن ذاكرتهم، ولا مع النماذج المعاصرة ذات الفعالية الكبيرة.  إنّ فطرتهم الإسلامية في تصارع مع المكتسب الحديث الذي حولهم.

و قد كتب احد المستشرقين من ذوي الأقلام البعيدة عن الاندفاع وهو “جب” (H.G. Gibb) كتابا مشهورا صدر منذ حوالي سبعين عاما تحت عنوان “الاتجاهات الحديثة للإسلام “(The Modern Tendencies Of Islam) حيث يقول: ” الإسلام دين حي وحيوي.. وليس هو الذي تحجر ولكن صيغه التقليدية ومفاهيمه الدينية النسقية ونظامه الدفاعي الاجتماعي…”.

 

إنّ مخزون الأفكار الذي يريد المسلمون في كل الأقطار والأمصار أن يقتحموا به القرن الواحد والعشرين خاطئ في جزئية كبيرة منه ويعرضهم بالتالي إلى انكسارات أخرى.  إنّ للروح الفاسدة التي سكنتهم من جراء قبولهم للانقلاب “الدائم” يدا طويلة في فشل الإرادات الضعيفة لمحاولات ” النهضة” المسجلة هنا وهناك. و عليه لا بد من إحداث شرخ و قطيعة مع منطق الهزيمة والفشل.

 هذا لأنّ السنوات التي تبقت حتى نهاية القرن تشكل الفرصة الأخيرة لعقد روابط جديدة مع الفكر الحديث والمؤسسات العالمية التي بدأت ترسي قواعدها شيئا فشيئا، و إلاّ فسنلحق بالرومان ومن سبقهم في مقبرة الحضارات التي اندثرت كليّا.

 

(“La Nation” 25 أوت 1993).

نشر في جريدة الخبر، “ركن اجتهادات” 26 أوت 1993

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى