بين الفكر والسياسة

فكــر مــالــك بــن نبــي:26) الخيبـــــــــــــــــــــة

بقلم: نور الدين بوكروح.

ترجمة: عبد الحميد بن حسان

إنّ الذي دفع بمالك بن نبي إلى تأليف كتاب “وجهة العالم الإسلامي” سنة 1954 هو تلك الأحداث التي شهدتها الساحة الفلسطينية سنة 1948. وكان يظن أنّ تلك الهزيمة النكراء ستوقظ العالم الإسلامي وستُعينُه على الانتباه إلى عيوبه. وفي هذا يقول : “إن القضية الفلسطينية التي هي أهمّ حدث على ساحتنا بكل تأكيد، والتي هي ـ بشكلٍ ما ـ أسْعدُ حدث في تاريخ العالم الإسلاميّ حديثاً، كانت بالفعل فرصةً تمَّ فيها تفتيت الفوضى التي كُنَّا نعيش فيها بسبب بعض التوجّهات العشوائية في حركة النهضة. كما كشفتْ عن كل القيم الخاطئة والأوهام المُضَلِّلة التي وجّهتنا إلى المستقبل وجهة خاطئة. إن هذه الهزيمة التي أنعمت بها علينا العناية الإلهية، وهذا الانتصار الباهر للحقيقة على الوهم، كل ذلك أدّى إلى تحرير العقول والضمائر التي كانت ترزح تحت نير الفوضى. وهكذا بدأت تظهر سُبُلٌ جديدة أمام الشعوب التي تعرّضت للصدمة لكنها استيقظتْ، والتي أصابتها الخيبة لكنها اتجهتْ بعد ذلك إلى الحقيقة. إنّ هزيمة فلسطين هي افتتاحية لمرحلة جديدة للنهضة الإسلامية. فلا مكان للأوهام أمام الحقائق التي كانت تُخفيها غشاوة الإيديولوجيات العاطفية. جاءت هذه الهزيمة كضربة قاضية في صميم أخطر ذِهانٍ (psychose) أُصِبْنا به، وهو ذِهان السهولة والتبسيط… هكذا، فإنّ العالم الإسلاميّ قد تخلّى عن أسلوب السهولة التي كان يتعامل بها مع أمّهات القضايا، ويبدو أنه يسلك سبيلا جديدة، يحدوه في ذلك العزمُ على التغلب على المشاكل، لا مجرد فهمها وتحليلها. وهذه الضربة القاضية هي في ذات الوقت دواء فعال ضد نوعٍ آخر من الذهان، وهو ذهان الاستحالة الذي حان دوره ليختفي…”

 

كان بن نبي في تلك الفترة يؤمن بمستقبل العالم الإسلامي، ويعتقد أنّ الإهانة التي تعرّض لها المسلمون ستوقظهم من سُباتهم وتسلك بهم سبيل الإصلاحات. ويقول في ذلك: ” لقد بقي الإسلام جامداً طيلة قرون من الزمن، وكأنه مُسمّر في الصور الذهنية والسلوكية التي سبق وصفها، والتي تمخّضت عنها حالة قابلية للاستعمار في مجتمع ما بعد الموحِّدين. ونتيجة لذلك وجد المسلمون أنفسهم تحت وطأة الاستعمار. أمّا اليوم فإنّ الإسلام داخلٌ في مرحلة التغيير، وأمامه مستقبل...” ولم يكن مفكّرنا يتوقع أن يأتي التغيير ويتحقق المستقبل للإسلام انطلاقا من بلدان المشرق ولا بلدان المغرب، أي من العالم العربي. كان يرى أن ذلك سيحدث كنتيجة لانتقال مركز الثقل الإسلامي من البحر المتوسط إلى آسيا، ويقول: “إنّ العالم المُرَكَّز على البحر المتوسط وصل إلى نهايته: فقد ترك مكانه لعالم آفل، وذلك بفعل الحربين العالميتين اللتين شهدهما،هو عالم لازال يستقي إلهامه من بقعتين مختلفتين. والعالم الإسلامي اليوم لم يعُدْ مُنْجذبا إلى القاهرة أو دمشق، بل إلى جاكرتا. وهذا التحوّل إلى المرحلة الآسيوية يستدعي نتائج نفسية وثقافية وأخلاقية، واجتماعية سياسية، وهي النتائج التي ستتحكم في تغيُّرِ العالم الإسلاميّ وفي اتجاهه إلى المستقبل، لكن قبل ذلك لا بد أن تظهر الإرادة الجماعية. وهذه الإرادة كانت إلى وقتٍ قريبٍ غامضة ومُنبثّة في إطار تركيبٍ مُعقّدٍ من العادات والتقاليد والأحكام المسبقة المتغيرة بتغير المكان والزمان، وهي تظهر تارة في صورة مراتب الشرف المركّب تركيبا غريبا والناتج عن سلطةٍ لا جذور لها في العقلية الشعبية، وتارةً أخرى تظهر في صورة علمٍ بلا آفاق. وهكذا كان الإسلام في حوض البحر المتوسط وراثيا عند الباشا ووليِّ نعمته، وكان قَبَلِياًّ بدوياًّ على مستوى الأمير العربي البربريّ، وكان مذهبياًّ منغلقا في البوتقة المقفلة التي راح يتعفّن فيها تحت سلطة الشيخ… وإنّ نهاية المرحلة المتوسِّطيَّة في تاريخ الإسلام هي بمثابة تحرير له من العوائق الداخليَّة” (“وجهة العالم الإسلاميّ”).

 

وكان بن نبي يتوقّع أنْ ينطلق هذا التجدُّدُ من باكستان وأندونيسيا على وجه التحديد. كما كان يرى في ذلك إمكانية لتراكُبٍ جديد بين الإنسان والأرض والزمن. ذلك أن البنية الاجتماعية في هذا البلد ليست طبقية بل شعبية. والشعوب فلاحية التوجّه، وهي بطبعها تتمتع بروح العمل وحبّه. وأخيرا فإن الهند المجاورة لا زالت تنبعث منها إشعاعات نصوص الفيدا Védas”. وبن نبي يقول في نفس الكتاب : “من السهل علينا أنْ نتصوّر التحوّل الذي سيحدث في الإرادة الجماعية لو أن الإسلام تخلّص من أدران مرحلة ما بعد الموحدين، وصار هذا التحوُّلُ تغرسه في الأرض أذرعُ جماهير تُحِبّ الأرض، وصارت تقوده نخبة لا ترى في القرآن مجرّد وثيقة أركيولوجية ثمينة موضوعة في المتحف ومنغلقة، بل ترى فيه سيرورة لا يتوقف فيها التغيير. إنّ الإسلام في هذين البلدين يعيش على أرض سبقتْه إليها أديان أخرى. فالمسلمون في الهند (بعد تقسيم سنة 1947) صاروا متمازجين مع الكتلة الهندوسية، والفرد المسلم ينتابه شعور بأنه يعيش على أرض أجنبية عنه، وتبعا لذلك فهو تحت دفع ما يلاحظه من حماس ديني لدى الآخرين. وبن نبي يرى في ذلك ’’منطلقاً لمخاضٍ عميق. فالنضج العقلي الذي ظهر عند محمد إقبال، وكذا ثراء تجربته العقلية التي لمْ تَخلُ من البُعْدِ الوجداني، وتمكّنه من كفاءة الفهم دون إهمال عنصر التأثير، كلّ ذلك لم يكن ليظهر لولا المحيط الذي عاش فيه هذا المفكِّر الفذّ والشاعر الكبير. إنّ هذا الحوار بين القلب والفكر، والذي كان غائبا لدى المسلمين في مرحلة ما بعد الموحِّدين ـ وليس هناك ما يدلّ على عودته يوماً في بلدان حوض البحر المتوسط ـ هذا الحوار ليس هو العنصر الوحيد الذي يُتوقَّعُ أن يستفيد منه الإسلام بانتقال بؤرته إلى المجال الآسيويّ“.

 

لكنّ مالك بن نبي كان على خطإٍ في الآمال التي تعلّق بها بخصوص مستقبل العالم الإسلامي. فعند فراغِهِ من تأليف “النزعة الأفروآسيوية” سنتان بعد ذلك، بدأ تفاؤله يتناقص، حيث يقول:  “إنّ المُسلم العليل لا زال يجرُّ وراءه عِلّته، وهو بهذا يكتشف المفارقة التي وقع فيها عندما شرع في نهضته دون أن يتخلّص نهائياًّ من أسباب انحطاطه خلال القرون الأخيرة. والحال أنّ العِلّة ليستْ مُرشَّحة للزوال في السنوات القادمة، بل هي مرشحة لتزداد استفحالاً. وإذا كانت هذه العلة تبدو في تناقُصٍ في بُعْدِها الإسلامي، فهي في تزايدٍ ببعدها العالمي الشامل، خاصة بعد ظهور النزعة العالمية. وما شعور المسلم بالرضا إلاّ في حدود المرجعية المحلّية، أمّا لو قارن نفسه بما يحدث من تطوُّرٍ على الساحة الدولية فهو في المؤخرة. وهو يزداد تأخراً عن مسيرة الحياة في العالم في كل يوم. ذلك أنَّ الشعوب التي اعتمدتْ على تخطيط حياتها تزداد تقدّما بفضل ذلك التخطيط. وفي هذا المجال فإنّ المسلم تواجهه مشكلة مزدوجة: نفسية وتقنية. فالتقدّم الذي سجّله غيره يزيد من فداحة تأخره في نظره. غير أنّ هذه المأساة تقتضي حلاًّ: إنه الوضع النفسي الذي ستزداد هيمنته على تطوّر العالم الإسلاميّ خلال السنوات المقبلة. إنّ هذا الحلّ الضروريّ لن يكون إلاّ نوعاً من (الثورة) التي ستُمكِّن المسلمَ من استدراك تأخره قياسا ببقية بلدان العالم. والحال أنّ الثورة يمكن أن تحدث بشكلٍ عفويٍّ، كما يمكن أنْ تأتي من الخارج إنْ كُنَّا عاجزين عن القيام بها بأنفسنا”.

 

وقد كتب بن نبي هذه الأسطر الرهيبة في آخر كتاب “النزعة الأفروآسيوية”، وكأنه يتكهن بوضع العالم الإسلامي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001: “إنّ العالم الإسلامي في الوقت الحاضر يبعث على القلق بفعل السَّديم الذي تأبى عناصره أنْ تندمج مع نظام خاضعٍ لقوانين محدَّدة. إنّ هذا الوضع السَّديميّ يمكن أن يُولِّد النظام الإسلاميَّ، ويمكن أن يؤدي إلى حالة فوضى عارمة تنهار فيها كل القيم التي أتى بها القرآن للبشرية”. وهنا يطرح بن نبي التساؤلات الأساسية التي لن يجيب عنها بنفسه لأنه كان يُقَدِّرُ أن تأتي الأجوبة عنها في “مؤتمر إسلامي“. تلك التساؤلات هي: ما هي وسائل هذا التحوّل وما هي طرقه ؟ ما هو الهدف ـ أو الغاية القصوى ـ التي يسعى إليها هذا التحوّل ؟

 

وبعد ذلك بعامين جدَّد بن نبي تحذيره للمسلمين بقوله: “إنَّ قيام ثورة اجتماعية أمرٌ ضروريّ، وإلاَّ فإنها ستأتي من الخارج. فالعشرون سنة القادمة يكتنفها خطر” (من كتاب ” فكرة كومنويلث إسلامي”ّ). وكانت هزيمة جوان 1967 في مواجهة إسرائيل بمثابة زلزال عنيف في جسد العالم الإسلاميّ. ومفكِّرُنا يستنبط من هذه الهزيمة نتيجة مُرَّةً بقوله: ” كان العالم الإسلامي أقربَ إلى حلّ معضلته خلال الأربعين سنة الماضية حتى وهو يرزح تحت نير الاستعمار. فوحدته الإيديولوجية كانت أمْتَنَ. أما اليوم فهو بعيد عن ذلك رغم استقلاله السياسيّ لأنّ وحدته الإيديولوجية تأثرتْ بأعمال التفرقة منذ أربعين سنة… وعلى مدى قرنٍ من الزمان لم يُحقِّق المجتمع الإسلاميّ أيَّ تقدُّمٍ، بل إنَّه قد تقهقر… وما أحداث شهر جوان المنصرم إلاّ صورة واضحة ومؤثرة، من بين الصور الأخرى التي تُثْبِتُ هشاشة البُنى السياسية والعسكرية القائمة على التكديس والتشييء، فقد ذابت كل الأسلحة والأشياء المُكدَّسة التي أُعِدّتْ لمواجهة دويلة إسرائيل في ظرف أيامٍ معدودة “.

 

وهذا الشعور بالخيبة نجده كذلك في خاتمة كتاب “مشكلة الأفكار في المجتمع الإسلاميّ” الذي صدر سنة 1971، إذ يقول فيه : ” إنّ العالم الإسلامي خارجٌ من مرحلة ما بعد الموحِّدين منذ القرن الماضي، لكن دون أن يسترجع مكانته. وحالُه في ذلك كحال الفارس الذي خرجتْ قدمُه منْ رِكَابِها ولا تزال تحاول الرجوع إلى مكانها. ومع أنّ الانحطاط أدّى بهذا المجتمع إلى الخمول والجمود والعجز والقابلية للاستعمار منذ قرون، فقد بقي محافظا على بقايا قيَمِه. وهو يَلِجُ باب القرن العشرين على هذه الحالة والعالم في أوج التطور الماديِّ، لكنه عالم تفسخت أخلاقه، خاصة بعد الحرب العالمية الأولى. أما اليوم فالمجتمع الإسلامي يتخبط في تناقض فكريٍّ: إنه يواجه معْضلات الحضارة التكنولوجية دون أن يحافظ على ما يربطه بجذوره من جهة، ومن جهة ثانية هناك أفكار تدعوه إلى الارتباط بمحيطه الثقافيّ، لكن دون أن تُمكِّنه من الاطّلاع على مُثُلِه العليا الحقيقية، وهذا رغم الجهود المحمودة التي بذلها رجال الإصلاح “.

 

وبن نبي يُذكِّرُ بأنَّ “النهضة لم يتمّ إخضاعُها لمخطط يأخذ بعين الاعتبار عامليْ التشتّت والكبح. فالمثقفون المسلمون لم يؤسسوا جهازاً للتحليل والنقد إلاّ في الحدود التي تُيَسِّرُ لهم تمجيد الإسلام. أمَّا القادة السياسيون فلم يقتنعوا بضرورة وجود هذا الجهاز من أجل مراقبة سير الأمور في بلدانهم. وهكذا بقي نشاط النهضة طيلة قرنٍ من الزمان بعيداً عن مقاييس الفاعلية، وفي فوضى فكرية عارمة. وقد أدى ذلك إلى ظهور صعوبات عدة، وإلى هَدْرِ الوقت، وتبذير الإمكانات، وإلى انزلاقات ناجمة عن عدم الانسجام بين الأفكار وبين تسلّط الأشياء أو الأشخاص .

 

قام بن نبي بإعداد النسخة الفرنسية من كتاب  “مشكلة الثقافة ” وألحق بها بعض النصوص التي لم تكن موجودة في النسخة العربية، كما أضاف في آخر النسخة الفرنسية بعض الخواطر المتفرقة التي يمكن لنا أن نقرأ فيها مثلاً:  “إنّ العقل الإسلامي يعيش صدمة بإزاء حالة هذا العالم الذي يبدو أنه لم يجد فيه مكانا. وانطلاقا من هذا فإنّ المسلم يمرّ على حالة قلق تدفع به إلى الأمل في تأسيس أمبراطورية جديدة أو قوة إسلامية جديدة. فكلّ النداءات والدعوات تمحورت منذ نصف قرن حول هذا الهدف… الذي يتباعد كُلّما ازداد الآخرون تقدّماً في المجال التقني الذي صار يُبْعِدنا عنهم. فهل مِن الحكمة أن نجري وراء سراب، أم الأحسن ان نتوقف لكي نفكِّرَ قليلاً ؟ “. والإسلام في كل ذلك بريء حسب تقدير بن نبي:  “إنّ الإسلام الذي سيكون شاهدا على البشرية حسب ما جاء في النُّبُوّة، هذا الإسلام هو نفسه الذي ما فتىء يصول ويجول بمفرده في العالم منذ زمن بعيد، بعيدا عمّا يُسمّى بالدول الإسلامية ونُخَبِها وساستها “.

 

وبمجيء عهد الاستقلال في الدول الإسلامية لم يَعُدْ أحدٌ يتكلّم عن النهضة، بل اتجه النقاش كله إلى التطور، والروح الوطنية، والاشتراكية، والليبرالية… إنّ الاقتصاد هو الذي استولى على شغاف القلوب. وبن نبي يُحذِّر من تقديس الاقتصاد في كتابه ” المسلم في عالم الاقتصاد “، إذ يقول:  “إنّ العالم الإسلاميّ لم يسترجع وعيه بعدُ. وهو يتأهب للخروج من كارثة ليقع في أخرى. وقد تمّ إعداده لهذا المصير إعدادا صحيحا… فالنزعة الاقتصادية لم ينص عليها القرآن، بل هي من إفراز كائنات أميبية جسّدت القابلية للاستعمار في الماضي، وهي اليوم تُجسِّد التأخر…وهذا هو المرض الذي يبدو أن العالم الإسلامي قد أُصيب به. وهو مرض استفحل بسبب الحربين العالميتين التي شهدهما قرننا هذا. العالم الإسلامي مُنْتقِلٌ من مرحلة كان فيها الاقتصاد غائبا عن وعيه، إلى مرحلة الهوس والجنون الاقتصادي، وكأنّ الطريق الوحيدة المؤدية إلى التفتح هي أن يخضع الإنسان للنهم الاقتصادي homo oeconomicus ، وأنْ يقف عند ذلك الحدّ “.

 

إنّ بن نبي الذي كان مُنظِّراً للنهضة الإسلامية لم يكتفِ بالمخططات التجريدية، ولم ينغلق على أطروحاته الشخصية مُتجاهلاً الواقع والأحداث الملموسة والتوجهات الملحوظة في مسيرة التاريخ. فكُتُبُه تتضمن فكره بالطبع، لكن هناك مصدرا آخر لأفكاره الباطنية، ويتمثل في مخطوطاته التي تعكس تشاؤمَه، بل يأسه، أكثر مما تعكسه كتبه المنشورة. ومما سجَّلَه في دفاتره بعد هزيمة جوان 1967 ببضعة أسابيع :   “خطر ببالي هذا التساؤل: هل بإمكان المسلمين أن يعيشوا ملحمة أخرى؟ إنّ هذا الأمر يبدو لي صعب التحقيق في الظروف الراهنة. فعودتهم إلى التاريخ في تصوري لن يكون إلاّ في صورة ملحمة تؤدي إلى نهاية التاريخ. ذلك أن شروط العودة إلى التاريخ حاليا ليست متوفرة لا في عقولهم ولا في الظروف العامة المحيطة بالعالم ” (ملاحظة مؤرخة في 12 جويلية 1967) .

 

وقد ازداد هذا الشعور حِدّةً عنده بعد ذلك بعام واحد، إذ يقول :  “الله وحده هو القادر على إحداث تغيير في هذا الجمود القاتل الذي يعيشه العالم الإسلاميّ، والناتج عن كوابح رسمية داخلية من جهة، وعن ضغوط خارجية من جهة أخرى. ومع هذا فإني لا أرى في الأفق أية علامة دالة على قرب الانطلاقة “ (ملاحظة مؤرخة في 21 جويلية 1968). وبعد هذا ببضعة أسابيع يعبّرعن تشاؤمه بشكل أوضح في قوله : “لم تَعُدْ في مُتَناوَلِ العالم الإسلامي أية وسيلة ليقوم بنفسه بتطبيق حلٍّ إسلاميٍّ كفيلٍ بإعطائه قوة الانطلاق باتجاه الحضارة كما حدث ذلك منذ أربعة عشر قرناً “.

 

كانت تلك التساؤلات والتدخلات جديرة بأنْ تؤدِّيَ إلى ظهور سُبُلٍ جديدة، لكن بن نبي لن يذهب إلى أبعد من ذلك. فبعد أن خطا خطوات شجاعة في طريق إصلاح العقل الإسلاميِّ والخروج من النمطية، ها هو يبدو متحفظا في هذه الآثار المنشورة، بل إنه سجل تراجعاً واضحاً. ولا شك أن الداعي إلى هذا الموقف هو تحاشيه مواجهة مؤسسات الإسلام الرسمية. فهل كانت رغبته مجرّد طرح التساؤلات ولفت الانتباه دون أن يذهب إلى أبعد من ذلك ؟ أمْ أنه كان يخشى أنْ يُضطرَّ إلى تقديم تنازلات للبعثيين و”التقدُّميين” وغيرهم من لائكيي عصره ؟

 

هل تستطيع البلدان الإسلامية في الوضع الذي تظهر به في بداية هذه السنة (2016) أن تحقق الأعجوبة التي حققتها الوحدة الأوروبية بإدماج مصائر عشرات الشعوب كي تكون الأولوية للمصلحة المشتركة وتُهْمَلَ المصالح الخاصة ؟ إننا لا نلاحظ أية دعوة للوحدة ولا حتى للتجمع باستثناء ما يجري في دول الخليج. فحلم الوحدة الإسلامية لم يكن سوى حلماً تعلّقتْ به عقول الشعراء والمثقفين والجماهير الساذجة. أما ما تحقق في أوروبا فإنه لا يعود إلى شدة التشابه وكثرة القواسم المشتركة بين الشعوب الأوروبية، بل يعود إلى أنّ ذلك التشابه نفسه لم يكن كافيا لتفادي حربين عالميتين وحروب جانبية عديدة وصراعات كثيرة على مدى الألفية الثانية.

 

لقد كان الأوروبيون طيلة ألف سنة يعتقدون أنّ  “الله نظّم أوروبا على نمطٍ يكون فيه لكل دولة عدوٌّ تقليديٌّ مجاور“، وهذا حسب تعبير أحد نُقّاد الأحداث الفرنسيين في القرن 16 م، وهو فيليب دي كومين Philippe de Commynes. لكن الأوروبيين تمكّنوا في الأخير من حوصلة تجاربهم واستقاء نظرة جديدة تماما حول مصيرهم، في الوقت الذي كان فيه المسلمون ينظرون إلى ما يحدث بنظرة تشكيك حالت دون اقتدائهم بذلك واتِّباع الطريق التي سلكتها أوروبا. ولم يكن اهتمامهم بالتجربة اليابانية والصينية أكثر من اهتمامهم بتجربة أوروبا. وتفسير ذلك عند بن نبي حسب ما جاء في “مشكلة الأفكار”(نسخة 1960): “أنَّ المجتمع الذي لم يُنْتِجْ أفكاراً منذ ستة قرون أو سبعة، بل كل ما أنتجه كان زرابيَ وطنافس شرقية، هذا المجتمع ليس بإمكانه أن يتفتح على أفكار مجتمع آخر وعلى إشعاع نماذجه الكبرى “.

 

ومع ذلك يبقى هناك أملٌ طفيف، وهو إمكانية تفعيل منظمة التعاون الإسلاميّ التي، ومنذ تأسيسها سنة 1969 غداة حريق المسجد الأقصى، لازالت تجتهد للحفاظ على التضامن، ولو الظاهري، (بأسلوب غير مُلْزِمٍ) بين المنخرطين الذين لا يجمع بينهم أي قاسمٍ مشترك على الصعيد الاستراتيجي والاقتصاديّ. وقد بدأتْ هذه المنظمة منذ بداية القرن 21 تحاول أنْ تتبنى نظاماً يشبه مخطط منظمة متعددة الأطراف على النموذج الذي تسير عليه هيئة الأمم المتحدة، وهي منظمة يخضع سيرها للمعاهدات وتستند إلى مؤسسات متخصصة، مثل مركز البحوث الإحصائية، الاقتصادية والاجتماعية SECRTCIC ، أو المركز الإسلاميّ لتنمية التجارة CIDC، والمركز الإسلامي للبحوث التاريخية والفنية والثقافية IRCICA.

 

وممَّا تمتلكه منظمة التعاون الإسلاميّ: البنك الإسلامي للتنمية BID، والغرفة الإسلامية للتجارة والصناعة CICIEM، ولجنة دائمة للتعاون الاقتصاديّ والتجاريّ COMCEC ، وهي تهدف إلى إعطاء الأولوية للتجارة والاستثمار والتكتّلات الاقتصادية الجهوية. وقد أُعْطِيَتْ إشارة الانطلاق لمرحلة أولى من المفاوضات حول الخيارات التجارية SPC سنة 2004، كما نُظِّمَ أول مؤتمر اقتصادي لبلدان المنظمة في إسطنبول شهر نوفمبر 2004. ومن جهة أخرى تتمّ دراسة مشروع إنشاء منظمات متخصصة، وإعداد تشريعات خاصة بالمجلس الإسلاميّ للطيران المدنيّ، واتحاد الاتصالات السلكية واللاسلكية، ومؤسسة المعايير والطقس… ومنظمة التعاون الإسلامي هي ثاني تجمّعٍ عالميّ بعد هيئة الأمم المتّحدة.

 

وممّا يدلُّ على أنّ بن نبي متأثر بالميتافيزيقا في أعماله، أنّ هذه الأخيرة تنصّ على أنّ العالم مؤسس على مبدإٍ مُوَحَّدٍ يُدعى Fiat lux . فالإنسان يسعى إلى الوحدة لكي يكون في انسجامٍ مع وحدة الكون التي هي انعكاس لوحدانية الله. فشؤون الدنيا وشؤون الروح لا معنى لها منفردةً، فلا بد من التوحيد بينهما كي يكون لهما معنى. وهذا البُعْدُ ملموسٌ فيما أُتيح لنا أن نقرأه من أعمال بن نبي. فهو يرى أنّ ” العناية الإلهية تُوَجِّه مسيرة الحضارة الثابتة، والتي تتعاقب حِقَبُها رغم كل النزعات الظلامية والشعوذة وألوان الاستعمار والنزعات الأمبراطورية في السياسة “( “شروط النهضة “). وحالة العالم بواقعه ومظاهره لا يحجب أفق عقل مُفكِّرنا. فهو ليس منغلقا في إطار الأحداث الراهنة التي تحيط به. وهو يؤمن بوجود مخطط شامل يعطي معنى ميتافيزيقياًّ للتاريخ ولتعاقب الأحداث.

 

ويتميّز فكر مالك بن نبي بتركيزه على عواقب الأمور، وهو يحب استباق الزمن في نظره إلى الظواهر لكي يقرأ دلالاتها الشاملة، بدلاً من النظر إليها بنظرة استذكارية لأنّ ذلك لا يفيد كثيرا في فهم دلالتها الحقيقية. فالتاريخ عنده ليس تعاقبا بسيطا للأحداث والآثار المتعلقة بأسبابها، لكنه تيار حيويّ تتحكم في مسيرته (نهايات) أو (غايات). وإذا لم تكن تلك الغايات مرئية ومُدْرَكَةً، فإنها مفهومة. إنّ الإنسان يصنع التاريخ، لكنه لا يفهمه إلاّ إذا اكتمل وصار في الزمن الماضي. وتتميّز نظرة بن نبي في هذا الشأن بكونه مسلماً أولاً، وخلدونياًّ ثانياً. إنّ التاريخ يجب ألاّ يُرى من زاوية الأسباب فحسب، لكن من زاوية الغاية النهائية والهدف الذي يسعى إليه. فالسببية وحدها لا تكفي لمقتضيات الفهم لدى الإنسان، وهو يقول في ذلك:  “إنّ الأرض لا تدور لأجلنا أو بسببنا “1). وقد كان لدى ابن خلدون شعور مسبق بأنَّه إذا كانت الحضارات تمرُّ وتمضي، فإنَّ الظاهرة الحضارية تواصل مسيرتها، وهي في ذلك تُسْدِي بالثمار من حضارة إلى أخرى، وتحثُّ كلَّ حضارة حالية على تجاوز ما حققته سابقتها، وذلك وفقا لقانون عام يُشَبِّهُهُ ابنُ خلدون “بـسُنَّةِ الله”.

 

وإذا كان بن نبي في ” شروط النهضة ” قد تقمّص وجهة نظر الفرد في نظرته إلى الشروط الواجب توفرها لدى ذلك الفرد لكي يكون عاملاً مُحرِّكاً للحضارة، فإنه، في  ” وجهة العالم الإسلامي “، قد نظر إلى المسألة من زاوية نظر فلسفة التاريخ، بل من زاوية نظر ميتافيزيقية، وذلك من أجل تبيُّنِ اتِّجاه التاريخ البشريِّ. فالحضارات في ميزانه العقليِّ قد بلغت قمّة تطوّرها لأنها لم تعُدْ قادرة على التعايش في هذا العالم الذي صار ضيِّقاً، وانطلاقا من تصوّرات متنافرة.

 

إنّ المصلحة العامة يجب أن تهيمن. ولكي يُعبِّرَ عن هذه الفكرة استعان بن نبي بصورة استقاها من مَلْمَحِهِ التكويني كمهندس، ويقول:  ” إنَّ صورة هذه الظاهرة تجسدها بالتقريب صورة ( التيار القاطع courant de rupture) في الكهرباء: فالشرارة تظهر عندما يحدث القطع أو الانفصام المفاجىء في التيار الناقل، أي عندما يصير هذا التيار فجأةً مُتعدِّداً. والظاهرة نفسها يمكن إسقاطها على الوسط الإنسانيّ. فالتناقضات تصير فيه انفجارية بسبب تلك التقطّعات والانفصامات الإيديولوجية والعِرْقية، إذ تظهر الشرارة لحظة القطع كما تظهر في منطقة تماسّ بين الأفكار أو الأجناس وهنا تندلع الحرب ويسود التمييز العنصريّ والاستعمار، وكلّ ما يُعبِّرُ بعنفٍ عن التناقض… وبعد الحربين العالميتين صار على العالم أن يحقق وحدته كي يتفادى ظهور شرارة حرب عالمية ثالثة… وليست النزعة العالمية مجرد فكرةٍ أو حلم أو سراب أو مبدإٍ أخلاقي، لكنها تأكيد لحال زماننا، وهي التعبير الذي لا بد منه لتصوير التطور الحاليّ، وهي ضرورةٌ فَرَضَتْهَا الظروفُ التقنية والنفسية التي آل إليها العالم “ (” النزعة الأفروآسيوية “).

 

أمَّا هونتينغتون Huntington فيتكلّم عن ترجيح وقوع خطر “صِدَام الحضارات ” وكأنَّ تلك الحضارات لم تكتشف أنها موجودة معاً إلاّ الآن. والحال أنها تصادمتْ في الماضي، بل إن ذلك هو كل ما كان يحدث بينها، فما أكثر الحروب التي شُنَّتْ باسم الله أو باسم الغزو ! وكل الحضارات كانت توسُّعيةً، غير مُتسامحةٍ، لكنها جميعا خسرَتْ معركة السيطرة على العالم. وفي حين كان بن نبي، الذي تجاوز في زمانه مرحلة “حوار الحضارات”، يبحث عن سبل إعداد التعايش بينها، ثُمَّ إدماجها معاً، كان المؤلف الأمريكي سابق الذكر يستبعد تلك الإمكانية كُلِّياَّ، ولا يرى في المستقبل إلاّ مواجهات وعداوة لا تُقهر إلاّ بالقوة، ذلك أن هذا المؤلف الأمريكي كان يؤسس أطروحته على فرضية مسبقة مستوحاة من فلسفة التاريخ لدى شبنجلر Spengler التي تنصّ على وجود حواجز بين الحضارات. وحتى لو سلّمنا بصحّة ذلك فإنّ الحواجز لا تعني الميل إلى التدمير المتبادل.

 

 

أما توينبي Toynbee  فكان يتحدث في أعماله الأولى عن “مخطط إلهي”. وفي أواخر حياته اشتدّ ميله إلى النزعة الروحية، إذ أسرّ للأستاذ الياباني كاي واكايزومي Kei Wakaizumi قائلاً:  “إنني أدرس التاريخ لأنه يمثل السبيل الذي يسمح لي بالذوبان في أحضان الحقيقة النهائية بأحسن صورة… ودراسة التاريخ في نظري تبقى مُجرَّدةً من أي معنى إنْ لم تكن لها دلالة دينية أخيرة، وهدف ديني… “(2). وهذه هي النقطة التي تجمع بين توينبي وبن نبي اللَّذَيْنِ يتميَّزان عن شبنجلر المُنْكِرِ لوجود فكرة أيّ مخطط روحي من صُنْعِ الله، أو أية استمرارية خطَّيَّة للتاريخ، وهو يقول في ذلك:  “إنّ الهدف أو الفكرة أو المخطط الذي تسعى إليه البشرية ليس بأكبر مما تسعى إليه الفراشة أو السّحلبية. فإمَّا أنْ تكون البشرية مفهوماً حيوانيا( زولوجيا)ًّ، وإمّا أن تكون مجردة من كلِّ معنى… وبدلاّ من هذه الصورة الرتيبة لتاريخ عالمي بشكلٍ خطيٍّ، فأنا أرى فيه مسرحا لتعدّد الثقافات العظيمة التي تنمو بقوة كونية أصيلة بمعنى مشهدٍ طبيعيٍّ… فالثقافات تنمو وتشيخ، وكذلك الشعوب واللغات والحقائق والآلهة والمشاهد. وهذا يشبه ما نراه من تفاوت بين الأشجار والأزهار والأغصان في أعمارها، لكن لا وجود (لبشرية في طريق الشيخوخة)(3).

 

وشبنجلر يرى أنّ الدمج بين الشعوب أمر غير ممكن. فلا وجود لـ (البشرية) في نظره، بل هناك أناس وشعوب وثقافات مختلفة اختلافا كلّيا، ومُستعصية على الوحدة. أما توينبي فكان يرى من جهته أنَّ نجاة البشرية يمكن أن تكون إذا تمّ الالتزام بثلاثة أمور، وهي: إقامة نظام دستوري تعاوني لحكومة عالمية (على الصعيد السياسي)، وإيجاد توافق بين الاقتصاد الحُرِّ والاشتراكية (على الصعيد الاقتصاديّ)، وإعادة وضع البُنى الذهنية الكبرى على قواعد دينية (على صعيد الأفكار). (4)

 

 

المراجع

 

1) ’’عشية حضارة إنسانية 4’’. La République algérienne، الصادرة بتاريخ 29 جوان 1951.

 

2) ’’ شدّ الرّمق: سبعة أسئلة حول المستقبل’’. « Survivre : sept questions sur le futur ».

 

3) (أفول الغرب Le déclin de l’Ocident).

 

4) (الحضارة على المحك La civilisation à l’épreuve).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى