بين الفكر والسياسة

فكر مالك بن نبي (30):بن نبي و الفكر الألماني

بقلم :نور الدين بوكروح

ترجمة: س.عايـــدة

من المهم أن نسجل أن مالك  بن نبي ذكر اسم غوته  (Goethe)في أول مقال  كتبه في حياته سنة 1936(1) ردا على نص فرحات عباس الشهير حول عدم وجود أمة جزائرية و الذي صدر في فيفري 1936 تحت عنوان”فرنسا،هي أنا !”« La France, c’est moi ! »  في جريدة فيديرالية المنتخبين الأهالي، « L’Entente »،  ثم في اليوم الموالي في « La défense » ، جريدة جمعية العلماء المسلمين الناطقة بالفرنسية.

لقد شبه فيه  بن نبي، بشيء من المبالغة، فرحات عباس  بشخصية فاوست (Faust). و كان  العنوان الذي اختاره بن نبي لمقاله مقتبسا من كتاب نيتشه (Nietzsche)،”أفول الأصنام”« Le crépuscule des idoles ».

ذكر بن نبي اسم غوته مجددا في كتاب” النزعة الأفروآسيوية”(1956) حيث أخذ شخصية فاوست مرة أخرى كمثال قائلا :”لا يجب على الشعوب الأفرو-أسيوية أن تنسى أن أمامها خيارات مأساوية، مثل العجوز فاوست الذي أراد أن يقايض روحه بفتوة جديدة، و يمكن أن نخسر على الصعيدين في آن واحد”.استحضره بن نبي أيضا في مقال “بن باديس الصوفي”(2) « Ben Badis le mystique »، و أخيرا في “عبرة من جريمة” « La leçon d’un crime » (3).

هل كان تأثر بن نبي بالفكر الألماني، و الذي لا يمكن تجاهله لتجليه في آثاره، بشكل مباشر من غوته أو من نيتشه؟ لا يهم ،ما دام غوته وجد الإجابات الأساسية لبحوثه الفلسفية في الإسلام، و أقر نيتشه بدوره  أنه من المعجبين بغوته .

 

كتب أحد المتخصصين في أعمال نيتشه في تقديمه لـ”هكذا تحدث زرادشت”      « Ainsi parlait Zarathoustra »     :” أنه لا يوجد كتاب لنيتشه لم يعُد فيه لغوته. و لا يوجد عقل هو الأقرب لغوته من نيتشه.  كل ما كتب و كأنه إلى حد ما نظرة “غوتيّة”. فما أسس فكريّْ كل من غوته ونيتشه خرج من مشكاة واحدة. و إلى الآن، لم نشعر أو نلاحظ إلاّ القليل عن الحميمية المحورية بين هاذين العقلين” .

 

يُعرف عن نيتشه أنه  تبنى أفكار الفيلسوف الألماني يوهان إيكارت  (Maître Eckhart, 1260-1328)، وأنه قد  واصل و أعطى بعدا جديدا لفكر غوته. بالنسبة له، الإنسان يحتاج إلى إيمان، لكن الإيمان الذي يكون في خدمة ترقية الإنسان. كان يبدو له أن رجالَ عصره أقل من مستوى الوعي هذا، لذا فعليهم أن يتجددوا و يغيروا قيمهم إلى قيّمٍ أسمى .

في مقدمة كتاب”أفول الغرب”«Le déclin de l’Occident » طبعة 1922، كتب أوزفالد شبنغلر (Oswald Spengler) من جهته:” من الواجب عليّ أن أذكر اسمين يرجع فضل هذا الكتاب إليهما: غوته و نيتشه. فمن غوته استعرت الطريقة، أما من نيتشه فترتيب الإشكاليات، و إذا أردتُ أن  ألخص وضعيتي بالنسبة لنيتشه في عبارة فسأقول: لقد بدّلتُ فلتاته إلى لمحات” (4)

في مدخل كتابه، وضع شبنغلر المقطع الشعري التالي لغوته و الذي يقول أنه يلخص فلسفة الكتاب كلية : “عندما تتكرر نفس الحركة دون توقف في سباق أبدي ، عندما تطوى السماء و تضم كوكبة الدب الأكبر (بنات نعش الكبرى) بين الآلاف من ثناياها، سيل من الاستبشار ينبع من الأشياء، من الكوكب الأقرب إلى النجمة البعيدة، يغرق موجة فرحنا، ليصدر أصوتا تطفئ أحكامنا المسبقة لتخبرنا أننا لم نفهم شيئا و تغرقنا في الهدوء الأبدي للإله الذي يتولانا”(5).

بدوره ، يفختر توينبي (Toynbee) بتـأثير غوته على فكره و الذي أخذ عنه هذا المقطع من مسرحية  “فاوست” الذي يلخص، حسب اعترافه الشخصي، الفلسفة التي أحيت كتابه الضخم المعنون “دراسة في تاريخ”: و جاء في هذا المقطع : ” لا يستحق الحياة والحرية إلاّ من يجددها كل يوم حتى يكون جدير بها“.

أخطأ بن نبي عندما جزم في كتاب “مشكلة الأفكار” (1971) أنّ” الفكر الغربي يجهل قانون انقباض و انبساط التاريخ“. أول من نقل القانون الذي يدير تواتر القلب (انقباض القلب و الشرايين، و انبساطه و استرخائه) إلى ميدان التاريخ هو غوتة ، ثم بعدها عالم النفس السويسري يونغ  (Carl Gustav Jung)(6).

بالنسبة لغوته، “الخلق من الألوهية ” . فهو ينبثق منه و ينفصل عنه بقوة في الامتداد (الانبساط)، ثم بعدها يعود إلى الإله في حركة الانقباض (التشنج). هذه الفكرة تتناسب تماما مع الدلالة العميقة التي تحملها الآية القرآنية: “إنّا لله و إنّا إليه راجعون” ، والتي لم ير فيها المسلمون سوى الصيغة المتعلقة بتأبينية الجنائز.

“افتتاحية في السماء” « Prologue dans le ciel »  و التي يستهل بها  كتاب “فاوست” هي تطبيق مصور لهذا القانون في ميدان التاريخ، ولتأليفها استلهم الفيلسوف الألماني نصه من القرآن على جميع الأوجه. ها هي بعض المقاطع لهذه ” الافتتاحية”(7) : (قال الرب للشيطان – مفستوفيليس- Méphistophélès): أبعد هذه الروح من أصلها الأول ، لكن لو خسرت فعليك الخجل من رؤية مخلوق فانٍ بين هذه الجماهير الضالة، يهتدي للطريق المستقيم، اذهب يا بني، أدّ مهمتك، أنت أقل من أكره بين كل الشياطين، فأعمال الإنسان عُرضة للتراخي، و لكي استنهض همته، احتاج لعنايتك به“.

وهاهي الآن الآيات القرآنية التي نعتقد أن غوته استلهم منها كتابة افتتاحيته، والتي نجدها في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، لكنا اخترنا تلك المذكورة في سورتي “ص” و “الأعراف”.

في الأولى يقول تعالى:”إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُون (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)” ( سورة ص)، أما في الثانية فيقول: “قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (25) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (27)”(سورة الأعراف).

لم ترد فكرة ” فاوست” على خاطر غوته إلا عندما قرأ القرآن ، و كان قد أنهى نسخة الكتاب الأولى في  1775 لكن النص النهائي لم يقرر إلا سنة 1831،أي سنة واحدة قبل وفاته.

تختلف الرواية اليهودية و المسيحية للـ”المعصية الأولى” و طرد آدم وحواء من الجنة، عن الرواية القرآنية .في الأولى الثعبان- الشيطان – هو سبب القطيعة الأولى للرابطة  بين الرب و الإنسان. نقرأ في أول سفر من” العهد القديم” :” قال الرب المولى للثعبان : بما أنك فعلت هذا، فستُلعن بين كل البهائم و حيوانات الحقول، ستمشي على بطنك و ستأكل القذارات كل يوم في حياتك، سأُشعل العداوة بينك و بين المرأة، بين ذريتك و ذريتها، هي ستقضي عليك من الرأس و أنت ستؤذيها في عقبها. و يقول للمرأة:” عندما أجعلك حاملا، ستكونين في معاناة كبيرة، ستضعين أطفالك في نصب كبير”. و قال لآدم:” لأنك استمعت لزوجتك و أكلت من الشجرة التي أمرتك قطعا أن لا تأكل منها، فستُلعن الأرض بسببك، ستمضي أيامك في شقاء، وسأنبت لك الأشواك وستأكل الحشائش في الحقول. و لن تأكل الخبز إلا إذا تعبت و تصببت عرقا إلى أن تعود إلى التراب لأنك خُلقت منه. أجل، إنك غبار و إلى الغبار إنابتُك“.

طُردت كل من حواء و آدم من الجنة، وبدأ بذلك مشوار الإنسان فوق الأرض. في الديانة المسيحية، الإنسان آثم و عليه أن يفتدى نفسه، لكنه لن يستطيع ذلك إلا بالغفران.

كان الجزائري سانت أوغستين    Saint Augustin(354-430) السبب الأصلي لما صار عليه لاحقا معتقد “الخطيئة الأولى” بعد  المجمع الديني الذي انعقد في مدينة ترونت (Trente) في القرن السادس عشر. ففي الكتاب المخصص لهذه النظرية ،كتب سانت أوغستين:” لوّث سُمّ الرغبة الشهوانية الإنجاب. من هذا المنطلق، انتقلت الخطيئة الأولى لآدم إلى ذريته، و بإصراره على المعصية الإنسان آثم. الأجيال المتعاقبة أصبحت مطبوعة بالخطيئة و أصبحت ضد الإله“.

لا يوجد في الإسلام أي أثر للخطيئة الأولى. من المؤكد أن الإنسان خسر، لكن الله رضي أن يعطيه فرصة ثانية بأن أرسل في أعقابه دوريا رسلا لتهديه إلى الصراط المستقيم. في” شروط النهضة”(1949) وضع بن نبي مثالا أين يصور تقريبا حوارا بين الله و الشيطان. لقد انبثقت عنه نظرة جد تفاؤلية (9)عبر عنها في هذا النص المبدع : “عندما نزل آدم إلى الأرض، لم يكن يحمل سوى ورقة التوت التي غطت عريه ووخز الضمير الذي يعذب روحه.عندما رأته الحيوانات وقوى الطبيعة ظهر هكذا ،سخرت من فقره. شعر آدم بالبرد، الجوع و الخوف. التجأ إلى كهف مظلم يتأمل فاقته وعزلته في طبيعة عدوانية بالكاد بدأ يتعرف عليها. أغبط قَدر كل من الطائر في الهواء و السمك في الماء. تأنيب الضمير يشدّ الخناق على روحه بقوة متأملا مصيره البائس، ناجى وتوسّل بكل خشوع، فردت السماء عليه:” لقد أعطيتك عبقريتك و يدك. اذهب… ستسيطر على الفضاء مثل الطائر الذي يطير و ستنتصر على الأمواج كالسمكة التي تسبح . ابتسم آدم… و أنارت الشمس كهفه المظلم و قدره المشرق“.

رجلُ قانون، عالمٌ ،شاعرٌ و فيلسوفٌ ،ذلك هو غوته الذي يُعتبر بمثابة نقطة الالتقاء في الفكر الألماني. نشأ في جو ديني مثل بن نبي، و قد غذته والدته بالقصص التي تهيج مخيلته دائما مثل بن نبي. قرأ و هو صغير رواية إنزل فيلسنبورغ« Insel Felsenburg »  ” المستلهمة من قصة روبينسون كروزو  Robinson Crusoë . مثل بن نبي أيضا، كان يحب العلوم و كان مشغولا بالبحث في معنى الكون و الخلق.

 

تربى في وسط بروتستانتي متشبع  بأفكار المصلح لوثر (Luther) و الروحانية الجرمانية. كان يتأمل سر الخلاص حول طبيعة العلاقة بين الإله و الفرد.أراد أن يجد القانون الذي يسير الكون .لم يكن يؤمن بالخطيئة الأولى و بإدانة الإنسان، فهو يرى أن الإنسان يستطيع بتفكيره أن يضمن خلاصه في الدنيا ويرى أنّ الله خيّر طيّب و هو غير مسؤول عن أفعال الإنسان. الشيطان يلعب دورا قويّا في الخلق، فهو يجسد احتمال الشر، لكن الإنسان حر و قادر على رسم طريقه نحو الخير.

 

يرفض غوته وضع الإنسان الذي ينتظر عطايا الإله. كان يخشى من أن تنفي المشاعر الدينية الكفاءات الإبداعية لدى الإنسان.على غرار الأستاذ إيكارت Maître Eckhart، فهو لا يؤمن بـ” ميتافيزيقيا الجزاء”. فقد كان يكتفي بمعرفة  الوجود غير المرئي للإله في القوى الحيوية. كان يؤمن بارتقاء الإنسان، ليس لكي ينفصل عن العالم، بل ليكون ناقلا للخير في المجتمع. فالحضارة هي تركيب الطبيعة مع الثقافة المنبثقة من آثار الإنسان. كان يبدو له كل من رسول الإسلام و بروميثيوس Prométhée يتوافقان مع هذه النزعة، و لهذا جمعهما في فنه الدرامي.

 

لم يكن غوته مستشرقا: فهو لم يدرس الإسلام من زاوية النقد أو المعرفة، بل من أجل حاجاته الفلسفية و الروحية. لقد وجد الإلهام الذي ساعده على أن يصنع فلسفته الخاصة، و رأى فيه امتدادا لآثار المصلح لوثر.وجد فيه الديانة الفطرية (الدين الحنيف) بامتياز. كان يؤمن بالتوحيد بين الله ومحمد كرسول.هو نفس محتوى الـ”الشهادة” الإسلامية و هي كل ما يطلبه القرآن من الإنسان للدخول في الإسلام. يعتبر الباقي ثانويا ، وهذا ما تؤكده بعض الأحاديث النبوية.

 

كان غوته قد تأثر قبل اتصاله بالإسلام بقراءاته لكتب مفكرين ألمان مثل ليسينغ Lessing و ليبنيز Leibniz اللذين كان لديهما احترام كبير للإسلام. لم تكف البروتستانتية الألمانية غوته الذي كان يشارك فولتير (Voltaire) في فكرة أن “لا لوثر و لا كالفان (Calvin) يعادلان حتى حذاء محمد“.

 

ارتبط في شبابه بهردر Herder الذي كشف له التأثير الكبير للحضارة الإسلامية على العالم و نقل له حب الإطلاع على الشرق .رفض الاثنان  النظر إلى التوراة على أنها وحي خارق للطبيعة. قرأ ترجمات القرآن التي قام بها ،إلى اللاتينية، ماراتشي Maracci سنة 1698، و إلى الألمانية مغررلين Megrerlin  في 1772.أمّا في سنة 1773 فقد قرأ تلك التي قام بها بويسن  Boysen، و مجلديّ”قصة حياة محمد،مشرع الجزيرة “( L’histoire de la vie de Mohamed, législateur de l’Arabie )  لتيربان Turpin، و نشر”نشيد على شرف محمد و بروميثيوس”( Chant en l’honneur de Mahomet et de Prométhée)، قرأ أيضا” حياة محمد” ( La vie de Mahomet ) للمستشرق الفرنسي أولسنر Oelsner، و” الكريستوماسي العربية (نصوص عربية)” (Chrestomatie arabe )  لسيلفستر دي ساسي Sylvestre de Sacy  و “المكتبة الشرقية ” ( La Bibliothèque orientale ) لهيربيلوا  Herbelot.

 

ألف غوته ما بين 1773 و 1775 أول رواية لـ” فاوست”. في سنة 1787 زار إقليم صقلية  و ولاية باليرمو الإيطالية ( Palerme) أقدمُ موْطنيْن للحضارة الإسلامية. و اكتشف في سنة 1791 الشاعرين الفارسيين حفيظ و سعدي. أما في 1798، فقد حرر “افتتاحية في السماء”، بعدها أي في 1799، اقتبس من كتاب “محمد “لفولتير. في 1806 أنهى الرواية الثانية لـ”فاوست” وقال:” قرأت و كررت، باهتمام كبير، حياة الرسول المشرقيّ و الذي لم أستطع أن أعتبره أبدا محتالا“.

 

بالإضافة إلى هذه الأعمال، كان غوته يعبر عن آرائه في رسائل موجهة لأقاربه من مثقفين و مفكرين، إذ كتب في رسالة لماير (Meyer) سنة 1816:” لابد أن نستمر في الإسلام“. و في أخرى وجهها لفيلمير Willemer سنة 1817 يقرّ:”علينا أن نعلِّم إسلاما عقلانيا عاجلا أم آجلا“. أمّا في رسالة له إلى تسيلتر(Zelter) سنة 1820 كتب: “لا أجد أفكاري معبرا عنها بالشكل الأمثل سوى في الإسلام“.

 

في سنة 1819 نشر “الديوان الغربي-الشرقي “« Divan occidental-oriental » (10) و الذي يمكننا أن نقرأ في أحد مقاطعه:” أنتم يا أيها العارفون بالقانون، الحكماء و الأتقياء و العلماء، درّسوا واجب المسلمين المخلصين الصارم. من الجنون أن يخلق كلّ شخص دينا له فقط من أجل رأيه الخاص. إذا كان الإسلام هو الخضوع للإله، فسنحيا و نموت كلنا بالإسلام .هكذا علينا التشبث بالحقيقة، ما أنجح محمد هو فكرة الإله الواحدة فبها فقط أخضع العالم. هل القرآن أزليّ؟ لا أريد أن أعرف. هل هو مخلوق؟ لا أدري. أما كونه كتاب كل الكتب، فهذا ما أؤمن به كما يؤمن  به أي مسلم“.

 

لعب الشيطان دورا في مفهوم  جدلية “تحدي-مواجهة” لتوينبي  حيث كتب :”تدخل إبليس أتم الانتقال من النور yin إلى الظلمات  yang“. يركز التصور التقليدي للدين على الجوانب الروحية و اللاعقلانية. في حين يركز كل من غوته (11)، نيتشه، شبنغلر،توينبي و بن نبي على الجوانب الفكرية، النفسية ، الأخلاقية و الاجتماعية. في “إنساني،إنساني جدا« Humain, trop humain » “كتب نيتشه:” إذا لم تُرِد الإنسانية المُضيّ إلى هلاكها، فعليها أولا أن تجد معرفة بشروط الحضارة السامية على جميع المستويات التي أصيبت إلى الآن. و هنا يكمن الواجب الكبير لعقول القرن المقبل الكبرى“(12).

 

و من بين “عقول القرن المقبل الكبرى” يمكننا أن نضع في المحور الإسلامي بن نبي قطعا، و الذي حاول أن ينقل أفكاره الغضة و نظراته الخلاّقة في الفكر الإسلامي. لقد كان نيتشه محقا عندما قال إن “التاريخ العالمي قصير جدا إذا ما قارناه بالمعارف الفلسفية المهمة“(13) ولا نعرف إذا ما كان ليفي ستروس Lévi-Strauss  يعرف متشابهه و مقاصده ، لكنه لم يخطئ عندما بيّن في “الدوائر الكئيبة”( Tristes tropiques ) المتماثلات “بين هذين النموذجين الاجتماعيين البارزين، المسلم المحب للجرمان و الألماني المتأسلم” .

 

ربما لدينا في كتاب الألمانية سيغريد هونكه(Zigrid Hunke)  تفسيرا حيث كتبت قائلة ” لم يولد الغرب العصري إلا في حضن صقلية النورمانديين و فريدريك حيث كان العقل الإسلامي هو القابلة في عملية الولادة هذه. في هذه المملكة المتموقعة بين فضاءين، التقت العبقرية الجرمانية و الإسلامية في شخص فريدريك الثاني. لقد صالح بين الشرق و الغرب على الصعيد السياسي لمدة قصيرة، لكنه فعل ذلك على مدى قرون في الجانب الثقافي…”(15).

 

يمكننا أن نسجل أن الرياضيّ الأوروبيّ الذي أدخل الأرقام العربية للغرب، ليونار دو بيز Léonard de Pise، صديق الإمبراطور، درس في بجاية في القرن الثالث عشر.

 

نلاحظ في كتاب بنوا ميشان  Benoist-Méchin الذي جمع بين حب الجرمان و حب الإسلام و الذي خصصه للإمبراطور الألماني فريدريك دو هوهينشتاوفن(Frédéric de Hohenstauffen)، معلومات حول  التربية التي تلقّاها من معلمين مسلمين في مدينة باليرمو:”لقد علموه العربية، و غرسوا فيه أساسيات المنطق، الحساب و الجبر. لقد قدموا له كتابات ابن رشد، و بطليموس(Ptolémée) ، عالم الجغرافيا الشهير الذي صنع لروجر الثانيRoger II  (الجد الأكبر لفريديرك) كرة أرضية كبيرة وأعطاه كتابا حول النبات…”(16) المجمع الديني الأول في ليون(1245) أقال فريديرك الثاني.و قام مجمع فيينا (1312) بحظر خلق منابرلتعليم اللغة العربية في الأراضي المسيحية.

 

استذكر بنوا ميشان ذلك و كتب لبن نبي رسالة في 1960 قائلا له:”لا يمكنني أن أعبر لك إلى أي درجة وجدت كتابك “وجهة العالم الإسلامي”مميزا، أو إلى أي درجة وسّع معارفي حول العالم الإسلامي، لقد وجدتُه واضحا مؤثرا و مقنعا في آن واحد. لقد منحني رغبة كبيرة للإطلاع على كل كتبك خاصة “الظاهرة القرآنية و “شروط النهضة”… وسأكون ممتنا إن أخبرتني هل يمكنني الحصول على هذه الكتب و إذا كانت الحالة تلك فإلى أين عليّ أن أتوجه..”.

 

عشر سنوات بعدها ،كتب بنوا ميشان لبن نبي ،وكان قد تعرف عليه، رسالة بتاريخ 28 أوت 1969 ليعترف له بـ” المتعة و الثراء الذي خرجتُ بهما من قراءة كتبك و من التواصل معك.أعتبر أعمالك مرحلة من الدرجة الأولى لتجديد الفكر الإسلامي…غالبا ما أعيد قراءة و تفحص كتبك، و في كل مرة أجد أبعادا عميقة و أصداء لا غبار عليها. شرف كبير بالنسبة لي في أن أتمكن من تقدير عقل مثل عقلك“.

 

 

المراجع:

 

  • عودة لـ” المثقفون و المهووسون فكريا: سقوط الصنم” ،نُشر في نوفمبر 1991 بترجمة إلى العربية في مجلة باتنية ” الرواسي” التي يرجح أنها حصلت عليه من حمودة بن ساعي الذي كان يقطن في باتنة.
  • Révolution africaine عدد 30 أفريل 1967.
  • Révolution africaine عدد 020ماي 1968.
  • المصدر السابق
  • ترجمة محند تازروت :لـ” أفول الغرب”«Le déclin de l’Occident » ، المصدر السابق.
  • يشترك كل من يونغ و بن نبي في نقاط أخرى : كلاهما كتب حول ظاهرة “الصحون الطائرة”. السّباق كان بن نبي عندما كتب حول الموضوع في مقال عنونه “الصحون الطائرة” (la République algérienne عدد 25 ماي 1950) أظهر من خلاله معرفة مدهشة بعلم الطيران حيث نفى، مع تقديم الأدلة، الإمكانية التقنية لوجود هذه الصحون الطائرة.لكنه يعتقد أن الشكل الكروي لشيء طائر مجهز بنظام تفاعليّ يقدم نظريا ميزات يصفها بـ”الجهاز يمكن أن يحط دون أن يحتاج لميدان الهبوط ، كما يمكن أن يحط على الماء كطائرة مروحية لا تغرق في البحر، يمكن أن يبقى ساكنا في الهواء بفضل ” التفاعل العمودي”، يوفر أقصى درجة من الأمن لركابه”.في حين خصص يونغ كتابا كاملا للموضوع عنونه ” الخرافة المعاصرة” منشورات غاليمار Gallimard 1961) في صورة مقاربة بسيكولوجية ،دون أن يقف عند احتمالية الوجود الحقيقي لهذه الصحون، كان يرى في نظراته الجماعية ظاهرة بسيكولوجية تترجم العبارة المعاصرة التي يسميها بن نبي ” الفراغ الكوني” و شبنغلر” الخوف الكوني“.قال يونغ في مقدمة كتابه:” يملي عليّ ضميري كطبيب أن أُشعر أولئك الذين يودون الإنصات لي و أحضرهم لحدث مفاده أن على الإنسانية أن تنتظر أحداثا تحدد نهاية تصور، نهاية حقبة و نهاية مرحلة مهمة للعالم“.
  • غوته:” الأعمال المسرحية الكاملة”« Théâtre complet », ، ترجمة ج.دو نارفالde Nerval ، منشورات البلياد la Pléiade ، باريس.

 

(8) سفر التكوين “في العهد القديم” 2،14 إلى 20

(9) أسماء رشيد هي الجامعية الباكستانية التي ترجمت كتاب” وجهة العالم الإسلامي” إلى الإنجليزية ، كانت من بين الحضور في المؤتمر الدولي حول فكر مالك بن نبي في الجزائر العاصمة سنة 2003، عرضت مداخلة بعنوان” النظرة إلى العالم لإقبال و مالك بن نبي و المتعلقة بالتاريخ،الثقافة و الحضارة”، و نقتطع منها هذه العبارة لإقبال الذي نسخ نظرة غوته:”لا يمكننا أن نفهم كل ما تحمله قوى الكون الخارقة الانتقامية ، المغذية و الممدة للحياة في آن.تعليم القرآن، الذي يعتبر أن الإنسان يمكنه أن يسّخر و يملك قوى الطبيعة،لا هي تشاؤمية و لا متفائلة.هي الإرادة القوية التي تقبل كونا في اتساع و تتمنى الانتصار النهائي للإنسان على قوى الشر…” (عودة إلى “فكر و أفعال مالك بن نبي.أشغال المؤتمر الدولي”منشورات المجلس الإسلامي الأعلى، الجزائر العاصمة 2005).

 

(10) و.غوته :”الديوان الغربي الشرقي “« Divan Occidental-Oriental »,  ،ترجمة هنري ليشتنبرغر H.Lichtenberger ، منشورات اوبيي Aubier ، باريس.

(11)أخبرنا لوي ماسينيون في نص”تأملات عابر من الغابة الصغيرة المقدسة لإزي”(« Méditation d’un passant aux bois sacrés  d’ Isé »)  أن اللون المفضل لغوته في التصنيف البسيكولوجي للألوان هو اللون الأخضر (عودة لـ “وعد معطى”المذكور آنفا”) الأخضر هو لون الإسلام.

(12)منشورات دينوال  Denoêl ، باريس.

 

(13) عودة إلى “كتاب الفيلسوف”« Le livre du philosophe ».

(14) منشورات بلون Ed. Plon ، باريس 1955

(15) عودة إلى كتاب” شمس الله تسطع على الغرب”« soleil d’Allah brille sur l’Occident », ،منشورات ألبين ميشال  Albin Michel ،باريس 1963.

(16) عودة إلى” فريديريك دو هوهينشتاوفن أو الحلم المحرم “« Frédéric de Hohenstaufen ou le rêve excommunié »,  منشورات المكتبة الأكاديمية  بيران Librairie académique Perrin ،1980

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى