أراء وتحاليلالجزائرالرئيسيةبين الفكر والسياسةسلايدر

ثورة المواطنة: نقطة تقييم على مشارف موعد حاسم

Ads

بقلم نورالدين بوكروح– يبدو أن الجزائر، شعبا وسلطة، قد وصلت إلى طريق مسدود وهي تقف اليوم عقيمة عن إنجاب الأفكار والحلول. الشعب والجيش يقفان وجها لوجه لمعالجة مشكلة لم تطرح من قبل علناً و هي مشكلة إلى من تؤول السلطة، ليس على أساس القوة كما جرى الأمر سابقا بل على أساس القوانين.

الثورة المواطنة ” بدأت “سلمية” ولا يمكنها أن تنتهي “دموية”.

من 22 فبراير 2019 إلى اليوم ، كان من الممكن الحفاظ على التعايش بين الثورة و النظام الدستوري، فقد تم ترحيل رئيس الجمهورية وفقًا للإرادة الشعبية والأشكال القانونية معا. و قد كان هذا هو الهدف الأول في ترتيب الأولويات ، لكنه يرد في المرتبة الثانية من ترتيب النهايات، يسبقه فيها رحيل “النظام” الذي لم يولد قبل عشرين عامًا ، كما يريد الرهبان الثلاثة الذين أطلقوا لتوهم نداءا إلى قيادة أركان الجيش ، بل في 1962 ، حتى لا نقول في عام 1957 داخل حمام في مدينة وجدة المغربية.

يوم الاثنين 21 ماي، سينتهي هذا التزاوج (الغريب في حد ذاته) بين الثورة والشرعية. و لن يحدث هذا نتيجة لانحراف من الثورة أو لانقلاب من السلطة، بل بسبب وقوع ظرف نادر في سجلات السياسة والقانون و هو “العطب الانتخابي”: سقوط انتخابات رئاسية نظرا لانعدام مرشحين وناخبين. و في هذا أيضًا ، ستكون ثورة المواطنة الجزائرية قد أبدعت.

لكن يبقى من الممكن الحفاظ على التعايش بين الثورة والشرعية لخمسين يومًا أخرى، ريثما تنتهي عهدة رئيس الدولة بالوكالة في 9 جويلية المقبل. بعد ذلك سيكون المجهول، الشاشة السوداء، الحقل المفتوح أمام جميع الاحتمالات، الجيدة مثل السيئة.

من الصعب أن نرى في الظلام الحالك بمجرد مصباح يدوي، ولكن يمكن القول بأن البلاد لا تزال لديها المهلة الكافية كي تحاول استبدال الاحتمال المخيف المتمثل في “انعدام الجاذبية” الذي يتربص بها – سلطة فاقدة للشرعية و ثورة يمكن أن تترك للانحرافات المحتملة – ؛ وذلك بما يشبه إعادة تشغيل المحرك قبل ثانية أو ثانيتين من انطفائه.

نظرا لعدم التمكن إلى الآن من إيجاد حل وسط بين الشرعية الدستورية ونظيرتها الشعبية، فإن الوطن سيجد نفسه مجبرا على المرور بفترة و بهيئات انتقالية ستكون بالضرورة غير دستورية. و أتحدث هنا عن فكرة إجراء انتخابات رئاسية في الموعد المحدد لها أو بضعة أشهر بعده، لكن دون البائات الثلاثة، تحت تأطير وجوه توحي بالثقة، و بعد إعادة النظر والتصحيح لقواعد اللعبة، و هي الفكرة التي دافعت عنها في المساهمات المنشورة على صفحتي بالفيسبوك و في بعض وسائل الإعلام الأخرى يومي 2 و 29 مارس، و كذلك في 4 أبريل.

يجب ألا يتحوّل الفراغ الدستوري إلى فراغ وجودي. ومن الضروري لتجنب ذلك معرفة كيفية تحديد و وضع و تصوّر الفترة والهيئات الانتقالية.

“المبادرات” التي تسير في هذا الاتجاه تتضاعف على مدار الأيام ، تتشابه أو تتكامل أو تتداخل أو تتعارض فيما بينها. كما تزدهر كذلك الانتهازية من خلال شخصيات أعلنت نفسها بنفسها متحدثة باسم حراك لم تكن هي سببا أو فاعلا في اندلاعه.

أغلب هؤلاء متخرج من مدرسة تيار إيديولوجي واحد، ومدعوم من بعض وسائل الإعلام المتواطئة. هؤلاء “الطوايشية”، شبابا أو كهولا، يتدافعون عند باب السلطة، بينما أصحاب السلطة الحقيقية لم يقترحوا أي شيء إلى حد الآن، رغم أن هذا لا يعني أنهم لا يحملون فكرتهم الخاصة عما سيأتي أو عن أين يعتزمون توجيه الأمة.

كما لم أتوقف عن كتابته و تكريره منذ ثمانينيات القرن الماضي ، فإن مشكلة العلاقة بين السلطة والشعب هي ذات طبيعة عقلية ونفسية، وتطرح نفسها بين “صنّاع قرار” توحدهم ثقافة القوة المترسخة في رؤيتهم للأشياء ، و بين شعب لا يستطيعون تصوره وفقا لما تصرّح به المواد 7 و 8 و 11 و 12 من الدستور، و هذا راجع لحالة الانسحاب من الحياة السياسية أو الجمعوية التي يوجد عليها منذ الاستقلال.

هذه المواد تنص بأن الشعب هو مالك البلاد ، و صاحب السيادة الوطنية ، و الوكيل الرسمي للسلطة، و الرئيس الفعلي للجيش و الشرطة و رجال الإطفاء و حراس الغابات وكل ما يلبس بذلة رسمية. لكن بالنسبة للسلطة ، فإن القول شيء ووضعه موضع التنفيذ شيء آخر. جوابها دائما “نعم” طالما لا تترتب عنه نتائج فعلية ، لكنه يتحوّل إلى “لا” عندما يتطلب الأمر تسليم السلطة إليه و الانصياع لإرادته. و هذا لن يحدث إلا في نهاية إصلاح عقلي ونفسي وثقافي لا يعرف أحد كيف ومتى وأين يجب أن يبدأ.

وهكذا ، فإن “صنّاع القرار” يتحدثون عن “أزمة” حيثما وجدت ثورة مواطنة تنطلق من مُثُل ديمقراطية، لا يتقاسمها جميع الحراكيين  بالتأكيد ، ولكنها كذلك ، حتى لو لم تحقّق بعد جميع أهدافها لأن هذا مشروع طويل الأمد.

بقولي ذلك ، فأني لا أكشف في الواقع عن جوهر فكري. فعندما يريد المرء أن ينظر إلى الأمور عن كثب ، سيتبين له أن المشكلة لم تكن أبدا في العلاقة بين الشعب وأولئك الذين كانوا يحكمونه ، ولكن كانت دائما في الشعب و في الشعب وحده.

فعندما كان الجزائريون، طيلة تاريخهم ، يتصورون أنفسهم عن غير وعي و يتصرفون كـأنهم مجرد “سكان” ، كانوا يُسَيَّرُونَ، عن طيب خاطر أو بالقوة ، من قبل أي شخص يمر من هنا، و من قبل كل من يهبط على شواطئهم أو أراضيهم، من أي قوة عسكرية مجهزة ومُنظمة بشكل أفضل مما كانوا عليه، و من قبل أي نظام اجتماعي وحكومي متفوق على خصوصياتهم: الفينيقيون والرومان والأتراك والفرنسيون وجماعة وجدة … فهم لم يكونوا يشكّلون “جسما” متجانسا، بل “كتلة” لا متناسقة من الجماعات العرقية والقبائل و العروش والعصبيات و”الدّواور” …

لقد حملوا اسم “الأمازيغ” (الرجال الأحرار) كما شهد لهم بذلك ابن خلدون ، لكنهم قضوا معظم تاريخهم تحت هيمنة أو أخرى ، شرقية كانت أم غربية، كما لو أنهم اختاروا الاسم الذي يناسب الأقل واقعهم.

تصورهم للحرية هو كأفراد مستقلين عن بعضهم البعض وليس كمجتمع ؛ كجسيمات أولية وليس ككائن حي ؛ كخواص و ليس كمجموعة. اليوم فقط بدئوا يتذوقون طعم “نحن” بعد معاناة طويلة من آلام مجموعة “أنا” مفككة ومبعثرة. فعندما أصبحوا “حراكا”  رأوا ما يمكنهم أن ينجزوه معاُ، و لن يعودوا أبدا إلى ما كانوا عليه من قبل!

من وجهة النظر هذه ، يمكننا تحديد تاريخ ميلاد الشعب الجزائري في 22 فبراير 2019. من وجهة النظر هذه كذلك فإن الثورة المواطنة الحالية تتجاوز في مداها التاريخي ثورة 1 نوفمبر 1954. فقبلها كانت الجزائر بيليك عثماني ثم مستعمرة فرنسية. بعد ثورة المواطنة الحالية لن يمكن لأي سلطة في العالم احتلال الجزائر لقرون طويلة، ببضعة آلاف من الإنكشاريين أو “الشنابط”.

إن ثورة المواطنة ليست سوى تعبير عن “الجهاد الأكبر”: بناء الذات من الداخل، ومحاربة الشياطين القديمة والخطايا الماضية بما في ذلك “العصبيات” ، و تقديم الصالح العام على المصلحة الفردية ، وإقامة دولة القانون ، و التوقف عن الإيمان بالرجل الملهم، و عن الانجرار خلف إغراء الخطاب العاطفي الديماغوجي والشعبوي، و التدحرج نحو الهاوية وراء “جحا” متنكر ببذلة و ربطة عنق أو بقندورة و بليغة. لا يزال هنالك الكثير منهم تحت ألف زيّ، بما في ذلك “الطوايشية” الذين لمّحت إليهم أعلاه والذين يمكنني بسهولة وضع الأسماء عليهم.

الثورة هي تغيير في رؤية المرء للعالم قبل أن يكون تغييرًا في الديكور الخارجي أو النظام السياسي أو القوانين. الأول هو الذي يؤدي إلى الثاني وليس العكس.

الغرض من هذا التقييم ليس التساؤل عن وضعنا للثلاثة أشهر الفارطة بل عن أين نحن منذ 3000 عام. تقييم لوضعنا و نحن في نقطة الفصل بين ماضينا المعذب ومستقبلنا الذي لم يتأمن بعد، في وقت يجب فيه أن نجد داخل أنفسنا الموارد الأخلاقية والفكرية لاتخاذ الخيارات الصحيحة، و لنجعل من عبارة “الشعب وجيشه”، ليس مجرد كلمة في الهواء لكن حقيقة مؤسساتية و فعلية.

حينئذ سنخرج من عهد “الحكايات” بصيغة الجمع ، ونصنع تاريخا بصيغة المفرد.

ترجمة بوكروح وليد

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى