بين الفكر والسياسة

بوركينافاسو: خسر رجل و فازت أمّة

بقلم نور الدين بوكروح

ترجمة عبد الحميد بن حسان

في الآونة الأخيرة حدث ربيع عربيٌّ في بلدٍ غير عربيّ. إنّ هذا البلد القاحل، الفقير والمعزول، لا وجود له في خرائط “الشرق الأوسط الكبير” التي رسمها المحافظون الجدد في أمريكا لخدمة مصالحهم ومصالح إسرائيل. وهذا البلد ليس عضوا في منظمة البلدان المُصدرة للبترول (الأوبيب)، كما أنه لا يملك الغاز الصخريّ ولا الأورانيوم ولا ذلك المعدن الذي يُزعمُ أنه اكتُشِف في أفغانستان ويستحوذ على اهتمام الوكالة الأمريكية لأبحاث الفضاء حسب القيل والقال…إنّ فرنسا، تلك القوة الاستعمارية القديمة، ليست لها أية مصلحة في الظروف التي تمرّ بها منطقة بوركينا فاسو وهي تشتعل وتتأهّب لتغيير النّظام بطريقة متسرّعة وبدون أي تَروِّي، كما أنها مشغولة بالأوضاع في كلٍّ من مالي والنيجر وإفريقيا الوسطى. وقِسْ على ذلك الولايات المتحدة المنهمكة في مراقبة منطقة السّاحل الإفريقيّ كمن يراقب الحليب على النار، إذ جاء ردّ فعلها هذا الخميس إزاء ما يحدث في بوركينا فاسو في غاية البرود، حيث أظهرت أسفها على تلك “الأحداث” وعبّرت عن رجائها في أن تستتبّ الأمور ويسترجع البلد استقراره.  

وكانت بوركينا فاسو إلى غاية يوم الإثنين الماضي بلداً هادئاً ومُستقراًّ، سكانه مُسالمون، عددهم 17 مليون نسمة، يحكمهم رئيس في الثالثة والسّتين، وهو في حالة صحية ممتازة، وذو تجربة وخبرة (حيث حكم البلاد مدّة 27 سنة بدون انقطاع)، كما أنه ذو صيت واسع على الصعيد الجهويّ. لم يكن بليز كومباوري Blaise Compaoré  مهدياًّ منتظرا فحسب، بل كان يعتبر نفسه هو الهادي. وكان مجيئه إلى السلطة بعد انقلابٍ قام به ضدّ توماس سانكارا Thomas Sankara سنة 1987. وكان سانكارا عسكرياًّ تقدّمياًّ (فهو الذي غيّر اسم بلاده التي كانت تسمّى في السابق فولتا العليا  Haute-Volta). ومنذ انقلاب سنة 1987 لم يُغادر بليز كومباوري السلطة إلى يومنا، حيث مارس الحكم طيلة عهدتين سُباعيتين، وعهدتين أخريين خماسيتين ، وكان يصبو إلى عهدة خماسية ثالثة ابتداءً من 2015 في حين أنّ المادّة 37 من الدستور لا تتيح له ذلك.

ومن يدري؟ قد يكون كومباوري استلهم السّابقة الجزائرية فتوهّم أنْ سيكون بإمكانه تمرير التعديل الذي يفكّ به عقدة تحديد عدد العهدات الرئاسية عن طريق مصادقة البرلمان، لكنه فوجىء بثورة بركانية من الشعب الذي خرّب مقرّ المجلس الوطنيّ ومقرّ التلفزة ومقرّ الحزب الحاكم، ثُمّ حاصر رئاسة الجمهورية. سارعت الحكومة منذ منتصف النهار بالإعلان عن سحب مشروع تعديل المادّة 37 أملاً منها في تهدئة الأوضاع، لكن هيهات. فبعد ساعات قليلة تزايدت المطالب: فالشعب صار يريد تنحيّة الرئيس فوراً، دون انتظار نهاية عهدته.

كان الجيش قانونياًّ لكنه لم يكن شريفاً إلى درجة انطماس بصيرته، خاصة عندما وجد نفسه بين خياريْن: مصلحة رجلٍ فردٍ ومصلحة الأمّة. فسرعان ما فهم هذا الجيش الوضع وتحمّل مسؤولياته قبل انفلات الوضع. ولأجل ذلك لم يُقْدِم على قمع الشعب باسم “القانون”، ذلك القانون الذي يدوسه المستبِدّون حسب أهوائهم ويُسلّطونه حرفياًّ على كلّ من يُعارضهم، بل وضع يده على موضع الدّاء باتّخاذ موقفه وإجراءاته ضدّ المُستبِدّ الذي كان يريد البقاء في السلطة مدى الحياة. ففي هذه اللحظات التي نخطّ فيها هذه السطور تمّ حلّ كلٍّ من الحكومة والمجلس الوطنيّ، وتمّ إنشاء “هيئة انتقالية” أُسندتْ لها السلطتان التشريعيّة والتنفيذية إلى حين الرّجوع إلى نظام الحياة الدستورية في غضون سنة واحدة.

بدأ كلُّ شيء يوم الإثنين بمظاهرةٍ قامت بها جمعيات نسائية لكي تُعبِّرَ عن رفضها لتعديل الدستور. وتبِعها آلاف المُواطنين الذين لبّوا نداء أحزاب المعارضة إلى “يوم احتجاج وطنيّ” عندما تظاهروا في الشوارع يومي الثلاثاء والأربعاء. وكان يوم الخميس هو “اليوم الموعود” لتسقط فيه أولى الضحايا، حسبما أوردته وسائل الإعلام، وذلك أمام منزل أخ الرئيس عندما أطلق الحرس النار في وسط الجماهير التي كانت تنوي إحراق المنزل. ويبدو أن فرانسوا كومباوري François Compaoré ، أخ الرئيس، تمّ إيقافه في المطار عندما كان يتأهّب لمغادرة البلاد. وللعلم، فإنّ هذا الشخص كان متورّطاً في عدة جرائم قتل سنة 1998، ولم يُلق الضوء على تلك الجرائم أبداً.

لمْ أعُدْ أذكر صاحب هذه المقولة: ” حيث يمثل الشخص كلّ شيء، يصبح الشعب لاشيء” وهي مقولة تدعونا إلى التّساؤل عن طبيعة هذا الشعب الذي يفقد وزنه أمام رجلٍ واحد. ألا يستحق هذا المصير؟ ألا يستحقُّ أنْ يُستعبد ويُباعَ في أسواق كابُل أو في ساحات داعش؟ إنّ الشعب الذي يتكوّن من رجالٍ لا يمكن أن يفقد وزنه فيصير رجاله مجرد ذكور. إنّ ما في هذه الفكرة من بشاعة وخساسة لم ينكشف للعيان إلاّ بعد لأْيٍ، لأنّها كانت تُعتبر طبيعية وعادية في البلدان المتأخرة اقتصادياًّ وثقافياًّ ( كون التأخر الثقافي هو أصل كل تأخر اقتصاديّ). والثقافة التقليدية هي التي حافظت في تلك البلدان منذ آلاف السنين على وهم القائد المعبود، والسّاحر، والجورو، والمهدي المُنتظر، والثوريّ المُحرِّر، و”الزعيم المُطلق”…

إنّ الجماعات البشرية المتولّدة عن تلك الثقافات المعتمِدة على السحر وعبادة الأوثان والنزعة الصبيانية والوجدانية، تلك الجماعات لا تلعب أي دورٍ في تحقيق وجودها والاتّجاه إلى مصيرها، فما عليها إلاّ أنْ تُطيع وتُصلِّيَ وراء الإمام وتُبجِّلَ المهدي الذي لا يكون في العادة إلاّ مجرد جُحا، أو مُشعْوِذاً، أو جاهلاً، أو مُجرماً. وهذه الشّعوب الخارجة من عصور الظلمات والانحطاط لتُرْسي في القرن العشرين معذورة في حالها لأنّها مشغولة بأشياء أخرى عن المطالبة بالدستور والتضحية من أجله، فأمامها أغوال المجاعة والأمّية والأوبئة التي تفتك بها، والأولوية عندها تتمثل في إرساء قواعد الدولة وأسس الاقتصاد ودعائم المجتمع الجديد.

و الشّعوب تتحرر الواحد تلو الآخر من سيطرة المُصابين بمرض حبّ السلطة، كُلٌّ حسب موعد استيقاظه. لكن صفة “الشعب” وحدها لا تكفي للارتقاء إلى مرتبة اليقظة. فلا بدّ من توفّر شروط أخرى إذا صدّقنا ما ذهب إليه بوذا. ذلك أنّ اليقظة نوع من التنوير وضرب من “يوريكا !” ذهنيّ وفكريّ وروحيّ. وهي لا تكون إلاّ بعد مسار تربويّ مُتميِّز. ومثال ذلك أنّنا في البلدان العربية الإسلامية لا نُعلِّمُ قيم الحسّ المدنيّ بل نُعلِّم القيم الدّينيّة، ونُعلّمُ طاعة أولي الأمر وليس التمثيل الديمقراطيّ، نُعلِّمُ الرضوخ للنصّ القرآنيّ وليس السعي إلى تأويله العقلانيّ. ولكي نكون أهلاً للحريّة والديمقراطيّة يجب أن تحدونا الإرادة لتحقيق ذلك من منطلق الإيمان بالمثل العليا وليس بدافع الغضب الهدّام وبسبب الجوع أو عدم المساواة في اقتسام الثروة.

إنّ الانتخابات التّشريعية التي جرت في تونس، وإنّ رفض البوركينابيين المساس بالدّستور من أجل إتاحة عهدة جديدة لكومباوري، كلّ ذلك مِنْ شانه أنْ يُعيد إثارة التساؤلات حول الظاهرة التي يرى فيها البعض، وبعيدا عن نتائج الانتخابات التي تنطوي على المفارقات وبعض الفوضى، إرادةً حقيقية عبّرتْ عنها الشعوب من أجل التّخلّص من الاستبداد، ويرى فيها البعض الآخر ” أيدي أجنبية” تتلاعب بالشعوب لتدفعها إلى تدمير بلدانها بأيديها مثل النائم الذي يقوم دون استيقاظ ويحمل بندقيته ويطلق النار في كل الاتّجاهات. وهؤلاء لا يجدون في “الربيع العربي” إلاّ داءً كداء إيبولا.

ولا شكّ في أنّ أتباع هذا الفريق الثاني مُتضايقون من المجرى الذي اتخذته الأحداث في تونس ومن ثورة الشعب البوركينابي الذي قلب الطاولة وما عليها في وجه حُكّامه لأنّ هذين النموذجين لا يتماشيان مع القولبة التي طوّرها كلّ من النموذج اللّيبيّ والنموذج السوري واليمني. غير أنّ هذا القالب النظري بدوره لا يتيح الإجابة عن هذا السؤال: ما السّرّ في أنّ كُلاًّ من العراق وأفغانستان وباكستان مرّتْ عليها نفس أحداث العنف والتّدمير دون أنْ تكون معنيةً بالربيع العربيّ؟

إنّ النزعة القبليّة هي التي تقف وراء ما يحدث في كلّ من اليمن وليبيا والعراق وباكستان وأفغانستان. أمّا في سوريا، وكذا العراق واليمن وباكستان نجد الصراعات والمواجهات بين أتباع مختلف الديانات. ليس أمام هذه البلدان، بعد أن تفرغ من الحرب والتّدمير غير خيار التجزئة أو النظام الفيدراليّ. وقد فشل الربيع العربي في كل البلدان العربية تقريباً، هذا صحيح، لكن يجب أن نسعى لمعرفة الأسباب بدلاً من الاكتفاء بتفسيرات جاهزة تُعفينا من عناء التحليل.

لم يجد العرب أنفسهم بين أمريْن: الأفضل و الأسوء، بل أغلب الحالات كان فيها الخيار بين السيء و الأسوء. والمسألة ذات علاقة بذهنيتهم وتاريخهم. فإنّا عندما كُنّا نُحرجُ الجيل السابق بملاحظة حول أسلوب تسييرهم يُجيبوننا بأنه يجب أن نشعر بالغبطة لأنّنا تخلّصنا من الاستعمار، وأنّ الاستبداد خير من الفوضى، وهُمْ لا يترددون في الاستشهاد بالآية القرآنية‘ إذ يقول تعالى: “والفتنة أشدّ من القتل”. ولا تزال هذه الذِّهنية سارية المفعول في قمة هرم الدولة إلى اليوم.

إنّه في الوقت الذي تتحرّك فيه الأمم الأخرى من حال إلى حال أحسن، وهي الفكرة التي نجدها وراء مفهوم النّموّ، يحدث عندنا عكس ذلك تماماً: فالقناعة بما هو كائن خيرٌ من المُجازفة وفقدان كلّ شيء. وهذه الفكرة راسخة في جيناتنا الوراثيّة، وفي تربيتنا الاجتماعية، وباستطاعتك أن تجد في موروثنا الشفهي زخماً من العبارات ومن سبائك الكلام حول هذه “الحكمة الشعبيّة” التي كان أجدادنا يؤمنون بها إيماناً حقيقياًّ، ومن أمثلة ذلك: “جا يسعى ودّر تسعة”، “هكذا ولا أكثر”، “اللي يروح خير من لي يجي”…إلخ.

ليس بإمكان الحُكّام البوركينابيين، ولا حتى خبراء السياسة عندنا، أن يتّهموا جهاز المخابرات الأمريكية أو الموساد أو الشيطان. هذا لا يعني أنّ تلك الكيانات غير موجودة في الكون أو أنّها لم تكنْ وراء عدد كبير من المؤامرات التي أودت بعدة بلدان إفريقية وآسيوية منذ الخمسينيات (كالانقلابات، والانفصالات، والمواجهات العرقية، والحروب الدينية، والتخريب، والقتل…)، لكنْ، ومع ذلك لا يمكن أن ننسب إليهم كلّ شيء. فالعامل الخارجيّ ينجح في دسائسه بفضل تواطؤات داخليّة، لكن طبعا ليس بتواطؤ الملايين المستعدة لتُجازف بحياتها، و إلّا فسيكون عملاً خيرياًّ من طراز عجيب.

وتشاء الصّدفة أن يتزامن ما يحدث في هذين البلدين ليُثْبت التونسيون أنهم هُم الذين يُقررون مصيرهم خيراً كان أمْ شراًّ، فيضعون السلطة بين أيدي الإسلاميين بقيادة الغنوشي في أكتوبر 2011 ثُمّ بين أيدي اللاّئكيين بقيادة السبسي في أكتوبر 2014، ويُثبت البوركينابيون أنهم شعب واعٍ وناضج سياسياًّ، وقادر على التعبير عن رفضه عندما يتجاوز التعفن حدّه، فصاح بأعلى صوته: ” كفى ! (C’est trop)، وهي العبارة التي قرأناها في لافتات المُتظاهرين، وبإزائها عبارة ” ارحل يا بليز” ( Blaise dégage !) واسم ” يهوذا” (Judas )، وعبارات أخرى. هذا شعب ليس بحاجة إلى أن تقوده المخابرات الأمريكية أو المُوساد أو الشيطان عن بُعْدٍ أو أن تنوب عنه.

لكن ما العمل الآن عندنا نحن “شعب المُعجزات، ونعتزّ بذلك” كي نُبرّر للعالم الذي يُشاهدنا دون أن يُعبّر عن حقيقة موقفه؟ بماذا سنُبرّر له سكوتنا عن خرق الدستور عندنا في حين أنّ نفس الخطأ أدّى إلى خلع أحد المستبدّين في يوم واحدٍ في بلد مجاور لنا؟ هل يكفي أنْ نقول لهم أنّ ما يصلح ويصحّ في مجتمع لا يصحّ في مجتمع آخر؟ وأنّ الجملة الواحدة لا تُفهم في الجزائر بنفس المعنى الذي تُفهم به في واغادوغو؟ أم نعلن لهم أننا نُفضّل أن نكون “هكذا ولا أكثر” حسب ما يُلقّن لنا يومياًّ بعقلية الدّوّار؟ لو أنّ نفس السّؤال طُرِح على بوركينابيٍّ، فأنا متأكّد من أنّه سيُجيب تقريباً بما يلي: ” سقط بليز كومباوري لأنه كان يظنّ أنّه في الجزائر. لقد خسر كلّ شيء باعتقاده أنه في بلدٍ مُستعمَر في حين أنه في واغادوغو. لم يكن بالإمكان ولم يكن معقولاً أن نُسامحه على هذا الخطإ”.  

ويمكن تلخيص الوضع في بلدنا كالآتي: فهذه عُهدة رئاسية زائدة أو إضافية، وبإزائها “الهيئة الانتقالية” التي تنتظر أنْ تُسلَّم لها السلطة، ولا ينقص المشهد إلاّ بعض التفاصيل في الوسط، أي: نداء إلى “يوم احتجاج وطني”، وخروج بعض الملايين من الجزائريين إلى الشارع، ثُمّ بيان قيادة الأركان للجيش الوطنيّ الشعبيّ في آخر اليوم. وبهذا نكون قد لحقنا ببوركينا فاسو !  ثُمّ سنُحاول أن نلحق بالنموذج التونسي في غضون ثلاث سنوات إن شاء الله.

لقد كُنّا أوّل بلد عربيّ أمازيغي إسلاميّ يقع تحت وطأة الاستعمار، وكُنّا آخر مَنْ تحرر. وكُنّا أوّل بلد عربيّ أمازيغيّ إسلاميّ أراد الدّخول إلى الديمقراطية، ونحن الذين قدّمنا أكبر التضحيات البشرية، ولستُ أدري هل يكمن سبب ذلك في أننا لم ننجح في الديمقراطية، أم بسبب مجرّد التفكير فيها. وبعد ذلك بربع قرن جاء “الاستقرار” تحت قيادة رئيسٍ صحتُه غير مستقرّة وهو أكبر سناًّ من كومباوري بـ 15 سنة، وفَضَّلنا هذه الحالة على “المُغامرة” برئيس جديد. قد يكون هذا صحيحاً، “هكذا ولا أكثر”.  

إنّ الثمن الذي دفعته تونس لقاء انتقالها إلى الديمقراطية لم ينحصر في الألف ضحية التي سقطت في جانفي 2011، وفي عدة عشرات من القتلى من جانب قوات الأمن سقطت على يد الإرهاب، إضافة إلى زعيمين سياسييْن، بل تجاوزت ذلك إلى خسائر فادحة على الصّعيد الاقتصاديّ حيث أصيب دخلها القومي الخام، وصادراتها، وسياحتها، وميزان دفعها، ومُدّخراتها من العملة الصعبة، وعالم شغلها، وأصيبت القدرة الشرائية لدى المواطنين بضربة قاسية. لكن هذا البلد تمكّن من تجاوز مرحلة المطالب الاجتماعية التي كان يعتقد أصحابُها أنّ الثورة ستأتي بالخير العميم لجميع النّاس بين عشيةٍ وضُحاها. والحقيقة أنه إذا كان التونسيون لم يستفيدوا من الناحية الاقتصادية إثر ذلك “الربيع”، فإنّهم استفادوا كثيراً من النّاحية السِّياسية لأنهم ارتقوا من حيث الوعي الوطنيّ والنُّضج السِّياسيّ، ومن حيث تشبُّثهم بالحريات العامّة وقيمهم المدنيّة. وعلماء الاجتماع يُطلقون على كلّ ذلك مُصطلح “الثروات الدّائمة”.

مرحباً إذاً بالشعب البوركينابيّ في محافل الدول التي حققت وجودها بنفسها ! والراجح أنّ رئيس البوركينابيين كان أشهر من بلاده قبل هذه الأحداث، لكن ما قاموا به سيكون سبباً في رفعهم إلى قمّة الاحترام والكرامة، مثلهم مثل التونسيين. فحيث يوجد شعبٌ لا يمكن أن يظهر المُستبِدّون. إنّ الأمة البوركينابية (وبوركينا فاسو تعني: بلد الرجال النّزهاء) قد نالت نياشين شرفها لأنها رفضت أن يستخفّ مُستبدٌّ بكرامتها، والجماهير واقفة على أرجلها. خرجت الأمّة بانتصار سيمتدّ في الزمن، أمّا هو فقد خسر مهما كان اتّجاه الأحداث القادمة. وفي البلدان المُجاورة لبوركينا فاسو ستة رؤساء كانوا يستعدّون أن يقوموا بالمبادرة التي قام بها كومباوري، لكنهم سيتراجعون بالتأكيد بعد أن رأوا ما حدث في “الربيع الإفريقيّ” الذي دشّنه إخواننا البوركينابيون.

  أُقدِّم للجميع تهانيَ الحارة بمناسبة الذكرى السّتين لاندلاع ثورة أول نوفمبر 1954، المجد والخلود لشهدائنا، وليبقوا مصدر إلهام لنا بتضحياتهم في سبيل الوطن ! 

(لوسوار دالجيري 01 نوفمبر 2014)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى