بين الفكر والسياسة

القرآن الكريم بين الترتيب الأصلي والحالي

بقلم: نور الدين بوكروح

ترجمة: عبد الحميد بن حسان

يقول تعالى: “كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ” (ص – الآية29ويقول تعالى:”أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا” (محمد-الآية24)، ويقول أيضاً: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(القيامة- الآية19).

لو افترضنا أنَّ كتابا مكوَّنا من عدد من الفصول غير متساوية الطول، قام مؤلفه بتكليف أحد الناشرين بنشره، وقام هذا الناشر بنشر الكتاب بعد تغيير ترتيب فصوله بمبادرةٍ منه هو وحده، فجعل الفصول الطويلة في صدارة الكتاب. ماذا سيكون من أمر هذا الكتاب ؟ إنَّ العنوان لم يتغيّر، ولا عدد الفصول والصفحات والفقرات والأسطر والكلمات. ومع ذلك فهل بإمكاننا الاطمئنان إلى أنّه الكتاب الأول على مستوى المعنى؟ وهل سيكون له نفس الأثر على القُرَّاء كما لو لم يحدث أيُّ تغيير في ترتيبه الأصلي؟  هذا ما جرى لنا مع القرآن، و تلك هي الإشكالية التي ننوي إثارتها في هذا المقام.

إنَّ القرآن الكريم الذي بين أيدينا ليس هو نفسه الذي أُنْزِلَ على النبيّ (ص) طيلة تلقيه للوحي. إنَّ المادة لم تتغيّر، وكذلك عدد الآيات والسور، لكن الترتيب الذي أُنزل به تمّ تغييره على أيدي البشر بعد وفاة النبيّ (ص) بخمس عشرة سنة. إنَّ الله تعالى عندما أوحى القرآن الكريم لرسوله (ص) لم يطلب منه أنْ يجمع الآياتِ والسُّورَ في كتاب، ولو حدث ذلك لوجدنا للقضية أثراً في النص القرآنيّ. هذا بالإضافة إلى أنّ النَّبي (ص) نفسه لم ينصح أصحابه بجعل القرآن مُدَوَّنَةً واحدة، ولو كان ذلك لصادفنا أدلته في الحديث الشريف. غير أنّنا من جانب آخر نجد النبيّ (ص) ينهى صحبه عن تدوين أحاديثه خشية اِلْتباسها بالقرآن الكريم، لكنهم لم يمتثلوا لأمره و فعلو العكس.

إنَّ الترتيب الذي أُنْزِلتْ به الآيات المجموعة في سُوَرٍ هو سلسلة رقميّة من السورة 1 إلى السورة 114، أمَّا الترتيب الذي نجده مطبوعا والذي يقرؤه الناس منذ أربعة عشر قرنا فهو على النحو الآتي (من اليسار إلى اليمين) 96, 68, 73, 74, 1, 111, 81, 87, 92, 89, 93, 94, 103, 100, 108, 102, 107, 109, 105, 113, 114, 112, 53, 80, 97, 91, 85, 95, 106, 101, 75, 104, 77, 50, 90, 86, 54, 38, 7, 72, 36, 25, 35, 19, 20, 56, 26, 27, 28, 17, 67, 11, 12, 15, 6, 37, 31, 34, 39, 40, 41, 42, 43, 44, 45, 46, 51, 88, 18, 16, 71, 14, 21, 23, 32, 52, 67, 69, 70, 78, 79, 82, 84, 30, 29, 83, 2, 8, 3,33, 60, 4, 99, 57, 47, 13, 55, 76, 65, 98, 59, 24, 22, 63, 58, 49, 66, 64, 61, 62, 48, 5, 9, 110

و بقيت ثلاث سورٍ فقط في رُتَبِهَا التي نزلت فيها، وهي: ص(38)، نوح (71) والانفطار (82).

إنَّ القرآن الكريم لم يُنَزَّلْ مجملا و دفعة واحدة. إنّ ما يُفْهَمُ من قوله تعالى:” إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ..” (القدر. الترتيب الزمني 25، الترتيب الحالي 97) هو أنَّ القرآن الكريم نزل من المكان الذي يوجد به نموذجه الأصلي إلى مجال الكون ( السماء الأولى ) الذي توجد به الأرض. و من هذا الموقع تمّ إنزاله مِنْ قِبَلِ جبريل المَلَك إلى النبي (ص) مُجَزَّءًا إلى آيات على مدى أكثر من عشرين سنة، وخلال هذه المُدّة كانت الآيات المُنزلة تُسجَّل بأيدي “كُتَّاب الوحي” على الرّقّ وقِطع الجلد وعظام الأكتاف. وقد أُنزِلتِ السور المكّيّة بين 610 م و 622 م، أمَّا السّوَر المدنية فأُنزِلتْ بين 622 م و 632 م.

إنَّ هذه المعطيات تؤكدها آيات القرآن الكريم في قوله تعالى” وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا “ (الإسراء. الترتيب الزمني 50، الترتيب الحالي 17. الآية 106) وفي قوله تعالى: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا “( الإنسان، الترتيب الزمني 98، الترتيب الحالي 76. الآية23). و من أشهر كُتَّاب الوحي: الإمام عليّ بن أبي طالب، عبد الله بن عبّاس، أُبَيُّ بنُ كعب، وأكثرهم شهرة على الإطلاق زيد بن ثابت الذي ارتبط اسمه بجمع القرآن الكريم نظراً لإسهامه العظيم في عهد الخليفة الراشدي أبي بكر الصديق ثُمَّ عثمان. و يعني هذا أنَّ المسلمين المعاصرين للنبيّ (ص) عاشوا خمس عشرة سنةً دون أن يكون القرآن الكريم بين أيديهم على الصورة التي نعرفه بها اليوم.

وحسب ما جاء عن أنس بن مالك، عالِم السنة النبوية المشهور، فإنّه مِنْ بين حفظة القرآن الأوائل لم يكن يحفظ القرآن الكريم حفظاً كاملاً إلاَّ أربعة، هم: أُبيُّ بن كعب، ومُعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. وهناك رواية أخرى تذكر منهم تسعة حفظة. وهذا ما يدلّ على أنَّ عدد الذين حفظوا القرآن حفظا كاملا منذ العهد الأول كان قليلاً، وهو الأمر الذي يبرر خشية عمر بن الخطاب على ضياع النص القرآني، فكان أول مَنْ فكَّر في جمعه في مصحف واحد بالعودة إلى السندات التي كانت الآيات تُسجّل فيها، وذلك قبل أن يختطف الموت من كانت تلك السندات عندهم من حفظة القرآن الكريم (سواءا حفظا كليا أو جزئيا).. وقد تقدّم عمر بهذا الاقتراح لأبي بكر الصديق الذي أبى أنْ يفعل ما لم يفعله الرسول (ص)، لكنّ عمر أقنعه بالفكرة قائلا ما معناه: “ما الضرر الذي تخشاه لو قمنا بذلك؟”. و لن يخرج المسلمون من ورطتهم إلا في اليوم الذي يقتدون فيه بفعل عمر و يصبح جوابه ردة فعل طبيعية و تلقائية لديهم.

و كان أنْ كلّف أبو بكر الصديق أكْفَأَ الحفظة، وهو زيد بن ثابت، بالشروع في جمع ما تفرّق من السندات التي سُجلتْ فيها الآيات. وحسب ما جاء في رواية السُّنة فإنّ زيد بن ثابت كان على علم بالتغييرات التي طرأتْ بعد آخر مُراجعة قام بها الرسول (ص) للقرآن الكريم خلال السنة الأخيرة من حياته مع جبريل المَلَك، وسُمّيتْ تلك المراجعة بـ”العرضة الأخيرة”. وقد تمّ هذا العمل بجمع كلّ الآيات وتسجيلها على أوراق، وهذا ما سُمّي بعد ذلك بـ”مصحف حفصة”. لكنّ الثابت أن عمر وأبا بكر لم يُريدا أنْ يفرِضا هذا المصحف على المؤمنين كمرجع وحيد نظرا لوجود روايات أخرى كانت تُتَداوَل بكل حرية، كتلك التي وضعها علي بن أبي طالب و وعبد الله ابن مسعود.

توفي الخليفة الراشديّ أبو بكر الصديق بعد سنتين من توليه الخلافة وخلفه عمر بن الخطاب الذي لم يساوره أيّ قلق من مصير العمل الذي قام به زيد بن ثابت ورفقاؤه، وذلك طيلة عهده الذي دام عشر سنوات. وقد بقي على موقفه الأول إذ لم يلجأْ إلى فرض أية نسخة من القرآن الكريم على المسلمين. ولم تأتِ فكرة تبنِّي نسخةٍ مُوحَّدةٍ بإجماع إلاَّ في عهد عثمان بن عفان الذي طلب من حفصة بنت عمر بن الخطاب أن تُسلِّمَه النسخة التي بحوزتها، ثُمَّ وضع النسخة بين أيدي زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث. وقال زيد بن ثابت ما معناه: “والله لو كلفوني نقل جبل من مكانه لكان أهون علي مما أمروني به من جمع القرآن“.

يتبيَّن مما سبق أن جمع القرآن لم يأت من الله ولا من الرسول (ص) ولا من الخليفتين الراشديَيْن الأوَّلَيْن، بلْ تمَّ على يد لجنة مُكوَّنة من أربعة صحابيين غير مُنَزَّهين عن الخطإ، ولكنهم كانوا يتمتَّعون بسلطة قبول أو رفض كل نصوص الآيات التي كانت تصل إليهم مُعتمدين في ذلك على شرط واحدٍ وهو أنْ يتَّفق اثنان على رواية واحدة. وبعض الآيات التي رُفِضتْ خلال عملية الجمع الأولى كانت مِنْ شخصيات فذَّة مثل علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب.

وبما أنّ العملية جرتْ على النحو الذي وصفْناه، فإنّ بعض ما كان في نهاية الوحي رُوِيَ في بدايته، وبعض ما نزل بمناسبة حادثة مُعيَّنة يمكن أن يتحوَّل إلى قاعدة عامّة، وما جاء موجهاً إلى جماعة بشرية مُعيَّنةٍ قد يُعمَّمُ على كل المجتمعات. وهذه بعض الأمثلة: إنّنا نصادف في السورة الثانية بالترتيب الحالي آيات حول واجبات المسلم ( كالجهاد والحج والصوم) وحول النواهي والمُحرَّمات ( كالخمر والميسر والرّبا…)، وهي في الحقيقة لم تُنَزَّلْ إلاَّ في الرتبة 87 خلال السنة 13 من الدعوة وبعدها.

نجد أيضا أحكام الوضوء و قطع يد السارق في السورة الخامسة في الترتيب الحالي في حين انهما وردتا في سورة ترتيب نزولها 112، هناك أيضا أية محببة لدى المسلمين لكنهم يفضلون قرائتها مبتورة يحذفون جملتها الأولى و يبنون الباقي للمجهول و هي الآية 32 من سورة المائدة”  مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ”.

وفي القرآن الكريم آيات تدلّ على أنَّ الله هو الذي سيجمع القرآن وسيحفظه. يقول تعالى: “لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ” (القيامة. الآيات 16- 19). إنَّ هذه الآيات هي أولاً جزء من سورة أُنْزِلَتْ في الرتبة الواحدة والثلاثين (وهي في الرتبة 75 بالترتيب الحالي)، فنزولُها كان في بداية الوحي حيث كان القرآن الكريم لا يزال في طور العرض، ولم يكن نزولها في النهاية حيث كان الجمع جارياً. ثُمَّ إنَّ السندات التي كُتِب عليها في البداية كان يمكن أنْ تُجمع وفق أيِّ ترتيب، وهذا هو المشكل الذي نثيره هنا: إنَّ القرآن الذي جُمِعَ في أواخر الوحي والذي تمَّتْ مُراجعتُه مراراً بين النبيِّ (ص) وجبريل عليه السلام هو نفسه القرآن الذي تمّ تعديل ترتيب سوره بعيدا عن الدوافع والتفسيرات التي ستُقَدَّمُ لتبرير ذلك التعديل.

إنَّ علماء السُّنَّة يؤكِّدون أنَّ ترتيب سور القرآن الكريم جاء تنازليا، من طوال السور إلى قصارها، والرسول (ًص) هو الذي قام بذلك بعد موافقة جبريل عليه السلام، وهو الذي أمر بنقل بعض الآيات من سورة إلى أخرى. غير أنّنا نلاحظ أن هذا المقياس ذاته لم يُلتَزَمْ به. فبالنظر إلى العشر سور الأولى – باستثناء الفاتحة – نلاحظ أن عدد آياتها ليس فيه ترتيب تنازلي بقدر ما هو ترتيب يشبه أسنان المنشار على شكل منحنى بياني يرسم هذه الوضعية: 286،200،176،120،165،206،75،129،109،123. وإذا نظرنا إلى العشر سور التالية نحصل على النتيجة نفسها: 111،43،52،99،128،111،110،98،135،112. والأمر لا يختلف في العشرة الثالثة: 78،118،64،77،226،93،88،69،60،34. وتلك هي الحال إلى آخر سورة.

إنّ وضع سور القرآن الكريم وفق ترتيب مُغاير لترتيب نزوله سيكون له أثر مختلف على المرامي والغايات العامة التي أنزِل من أجلها. لقد تمَّ اختراق قانون الوحدات الثلاث الذي ينطبق على كل أثر مكتوب، إنسانيا كان أم إلهيا. إنها وحدة الزمان والمكان والفعل. وقد نتج عن ذلك أنّنا كثيرا ما نُضطرُّ إلى الاستعانة بـ “العلوم الدينية” من أجل فهم معنى آيةٍ ما، أو فهم الحكمة من بعض الأحكام الفقهية. إنَّ الترتيب الحالي لا يفيدنا فيما يتعلّق بتسلسل الأحداث وبأسبقية حدث على آخر وبالترتيب الذي جاءت به الأوامر والنواهي. ولو أنه تمّ الالتزام بالترتيب الكرونولوجي (الزمني) لكان من السهل على المسلم وغير المسلم أن يفهم المعنى الحقيقي والمَجَاِزيَّ في سُوَرِ القرآن الكريم، والاطِّلاع على حيثيات نزول كل آية.

ومِنْ نقاط الخلاف بين علماء السّنّة نجد اختلافهم حول تسمية بعض السور القرآنية ( مثل الفاتحة وفاطر والمطففين والتوبة) وكذلك حول تاريخ نزول بعض السور أو مكانه ( مثل الرعد والإنسان والبيِّنة)، وحول عدد آيات بعض السور. ومِن السور المكية ما تضمَّن آيات مدنية – وهو الأكثر ظهورا – وهناك حالات قليلة جاءت فيها سور مدنية تضمنت آيات مكية أو آيات أُنزلتْ بين مكة والمدينة أو في مكان آخر. أما عناوين السور فلم يكن توقيفيا، بل هو مِنْ وضْع البشر، فقد كانت تغطية بعض تلك العناوين لسورها تغطية جزئية، ومثال ذلك سورة النحل التي لم ترِدْ فيها إلاَّ آيتان حول النحل مِنْ بين 128 أية.

وماذا عن القرآن الكريم كما هو متلوٌّ في أيامنا قياساً بالنموذج “المحفوظ” عند الله تعالى ؟ أيكون النموذج الأصلي الذي يوجد في مكانٍ ماَ في الكون، أو خارجه – إذا أخذنا نظرية تعدّد الأكوان بعين الاعتبار – هو نفسه النموذج المتداول بيننا اليوم ؟ الإجابة منطقيا تكون بالنفي، بدليل أنَّ النموذج المحفوظ عن ظهر قلب والمتلو على ألسنة المسلمين في عهد النبيّ (وهو النموذج المحفوظ عند الله) قد تغيَّر بعده بخمس عشرة سنةً.

إنَّ الله تعالى قد وصف هذا النموذج المحفوظ عنده بقوله تعالى” بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ” (البروج. الترتيب الزمني 27، الترتيب الحالي 85. الآيتان: 21،22). وفي قوله تعالى:” إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ،لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ” (الواقعة. الترتيب الزمني 46، الترتيب الحالي 56. الآيات: 77-80، وفي قوله تعالى “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ” (الحِجْر. الترتيب الزمني 54، الترتيب الحالي 15. الآية9). وقوله تعالى:” وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ، أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ، وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ، وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ “ (الزّخرُف. الترتيب الزمني 63، الترتيب الحالي 43. الآيات: 2-8). وقوله تعالى:” فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ، مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ ” (عَبَسَ. الترتيب الزمني 24، الترتيب الحالي 80. الآيات 13-16).  كما أنّه موجود على الأرض، أي في التاريخ البشريِّ، مصْداقاً لقوله تعالى: “إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ ،صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ “( الأعلى. الترتيب الزمني 8، الترتيب الحالي 87. الآيتان: 18، 19). وهنا لا بُدَّ مِنْ طرح هذا التساؤل: إذا كُنَّا نعرف أنَّ النبيّ موسى قد تلقى “الألواح”، أيْ التوراة، فما هي تلك الصُّحُف التي نزلتْ على النبيِّ إبراهيم عليه السلام ؟

إنَّ المُلاحَظَ هو أنّه نادراً ما ذُكِرَ القُرآنُ الكريم دون الإشارة إلى أنه “ذِكْر” أو “تذكير”، وهذا دليل على أنه نسخة ممَّا أوحي سابقا على فترات متعاقبة منذ آدم عليه السلام. بل إنه كثيرا ما ذُكِر القرآن بلفظ “الذكر” وحده، وأنه ليس مُرْسلاٌ للعرب وحدهم بل للبشرية كافة يقول تعالى: “بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” (النحل الترتيب الزمني 70، الترتيب الحالي 16. الآية 44).

وإذا كان القرآن الكريم مجرد تذكير بلسان عربيّ لجماعة بشرية لم يسبق لها أنْ تلقّتْ أيَّة رسالة، مِصّداقا لقوله تعالى: “تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ” (يس. الترتيب الزمني 41، الترتيب الحالي 36. الآيتان:  5،6) وقوله أيضا: “وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ” (الأنعام. الترتيب الزمني 55، الترتيب الحالي 6. الآية 92). فإنّ سؤالا يطرح نفسه: ماذا عن ذلك القسم من القرآن الذي يتناول الجانب التاريخي، أي الجزء الذي يسجل الأحداث المتعلقة بالدعوة المحمدية، وهي الأحداث التي كان لها بالغ الأثر في مسيرة النبيّ (ص) ونبوّته مثل غزوة بدر والخندق، وأسماء الأعلام مثل أبي لهب وزيد؟ هل يوجد هذا الجزء في النسخة الأصلية (“أم الكتاب”) التي أُنْزِلَتْ على الأمم السابقة ؟

إنَّ الله تعالى لا يأمر الناس بعبادة القرآن، ولا يطلب منهم أن يبقوا منبهرين تُجاهَ جماله السحريّ، بل يريد منهم أن يدرسوه وأن يتأملوا في أوصافه وإيماءاته ومجازاته واستعاراته و تمثيلاته ليبحثوا من خلال ذلك عن مفاتيح لأسرار الخليقة والكون، ولِمَ لا محاولة الكشف عمّا مِنْ شأنه أنْ يُقرّبنا من ذات الله. ألا تجد أن في سورة القمر وحدها تكررت الدعوة إلى التأمل ستَّ مرات (أربع مرات صيغةً-40،32،22،17- و اثنان معناً -15 و51-) في قوله تعالى” وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ” ؟ (القمر ، الترتيب الزمني 37، الترتيب الحالي 54). وفي الإطار نفسه، فإنّ الله لم يطلب من الناس أن يعبدوا النبي (ص)، بل طلب منهم أن يتبعوه في السبيل التي أوحيت إليه، وهي سبيل الخير العام. إنّ الله تعالى يحثّ على أن يجدَّ الناسُ في تحسين مستواهم العلميّ، وهو يدعو “ذوي الألباب” منهم إلى التفكير في آيات الله، ويتحدَّاهم أن يجدوا في القرآن تناقضا أو أنْ يحاولوا تقليد بعض آياته. لقد استحثّهم عشرات المرات أن يدرسوا تاريخ الشعوب الغابرة، وهو عمل يتطلب تظافر عدة علوم، وهي: علم الآثار، وعلم الإناسة (الأنثروبولوجيا)، والتاريخ، وفروع أخرى من المعرفة العلمية. كما أنه أمرهم بمحاولة غزو الفضاء في قوله تعالى: “يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ “( الرحمن. الترتيب الزمني 97، الترتيب الحالي 55. الآية33).

وقد لحقت القرآنَ بعض التغييرات في مضمونه، إذْ نُسِخَتْ آياتٌ مع بقائها في النصِّ القرآنيِّ. يقول تعالى: “وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ۙ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ “( النحل. الترتيب الزمني 70، الترتيب الحالي 16. الآية101 ). في هذه السورة التي ذُكِرَتْ فيها ظاهرة النسخ لأول مرة دون تحديد الآيات المنسوخة. في حين يقول تعالى في سورة البقرة: “مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ” (البقرة. الترتيب الزمني 87. الترتيب الحالي 2. الآية 106). ويقول أيضا: ” يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ “( الرعد. الترتيب الزمني 96، الترتيب الحالي 13. الآية39).

إنَّ إثارة مسألة الناسخ والمنسوخ ضرورية إذا أردنا أنْ نفهم العلّة في أنَّ الظَّاهريين، الذين يتناولون النص القرآني على ظاهره وصريح لفظه دون النظر في سبب نزوله، انكبّوا على تلك الآية التي يسمونها “آية السيف” واعتمدوها كآية ناسخة مُعتبرين عشرات الآيات الداعية إلى التأنّي والتسامح والحِلْم كآيات منسوخة (إذ يذهب ابن حزم إلى أن عدد الآيات المنسوخة هو 114 مأخوذة من 48 سورة، ويذهب غيره إلى أن العدد بلغ 140 آية أو أكثر)، وهذا لسبب واحد هو أن آية السيف هذه نزلت في السورة ما قبل الأخيرة من حيث تاريخ التنزيل. وهم بهذه الآية يلغون كل الآيات التي توصي بالتسامح والحلم مع غير المسلمين. يقول تعالى في تلك الآية: “فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ “ (التوبة. الترتيب الزمني 113. الترتيب الحالي 9. الآية 5). وشبيه بمضمون هذه الآية ما نجده قبلها في قوله تعالى: “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ” وقوله تعالى أيضا “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ” ( الأنفال. الترتيب الزمني 88، الترتيب الحالي 8. الآيتان: 39،60 ).

والتطرفُ يُوَلِّدُ التطرفَ، إذ نجد في مواجهة هذه الطائفة المتشددة دعاة الحداثة و العصرنة الذين يدعون إلى نسخ الآيات المدنية التي تتناول موضوعي المرأة والجهاد، وهذا باسم نظرية النسخ دائما.

وماذا يعني بالضبط نسخ الآيات ؟ أيعني سحبَها من القرآن الكريم ؟ إنّ ذلك لم يحدثْ ولا يُعْقَلُ أنْ يحدث. أيعني النسخ الإقرار بأنَّ الآية المنسوخة ليست قابلة للتطبيق ؟ وإذا كان الأمر كذلك فمَن الذي بيده أن يقوم بذلك ؟ وكيف ؟ أمْ أنَّ النسخ يعني مجرّد تأجيل التطبيق مؤقتاّ، كما جاء في اقتراح لطارق رمضان بخصوص العقوبات الجسدية المطبقة على النساء ؟ وهناك طُرُق أخرى، غير النسخ، تُوصِلُ إلى نفس النتائج : مثل التَّجوُّز الذي به تُحَمَّلُ الآيات مدلولا بعيدا عنها، أو بعدم تطبيق تلك الآيات بالفعل كما هو جارٍ في معظم البلدان الإسلامية. و في الواقع، ما الفرق بين قانون غير مطبق وقانون منسوخ ؟

إنَّ الظَّاهريّين والأصوليين، بمقتضى المنطق الذي يفكرون به، هم أحرى الناس بالمطالبة بإعادة ترتيب سُوَرِ القرآن الكريم. ذلك أنَّه لا يوجد، في نظر أيِّ مسلم، أخطر مِنْ أنْ تَمْتَدَّ يَدٌ إلى القرآن لِتُجْرِيَ تعديلاً على الترتيب الذي نزل به من السماوات، ففي ذلك مُجازفة قد تؤدِّي إلى زعزعة فلسفته وبنيته وانسجامه. ولقد ثبت من الأمثلة المطروحة أن الفرق لا يستهان به لدى قراءة القران وفق احد هذين الترتيبين المختلفين.

إنَّ الرجال الذين تبنّوا قرار تغيير ترتيب سور القرآن الكريم لم يكونوا من أهل القداسة ولم تكن لهم أي سلطة لفعل ذلك، و كأن صنيعهم هذا بسيط و لم يأخذ بعدا جوهريا و خطيرا في تاريخ الإسلام، لكنه كان كذلك على الأقل من باب أنّهم تصرَّفوا في كلام الله. لقد رتَّبوا القرآن وفق ما أملتْه عليهم نواياهم الطيِّبة وضمائرهم دون أن يُعارضهم مُعارض في زمانهم ودون أن يثبت خطؤهم بعد زمانهم. وليس هناك ما يدلّ على أنَّ عامة المسلمين اليوم على علم بهذه المشكلة، وهي ليست منشغلة بها أصلاً. لكن التذكير بهذه الحقائق التاريخية قد يُؤوَّل في أيام الجهل التي نعيشها على أنه مساس بالإسلام. ومهما كان الأمر مُدهشا فإنَّه استنادا إلى عدَّة أدلة – ومن بينها المسألة التي نحن بصددها – يجب أن نُقِرَّ بأنَّ مسلمي القرن الهجريّ الأول كانوا أكثر تسامحا وأكثر تفتحا من مسلمي القرن الخامس عشر الهجري (ق21م).

لماذا كانت الآيات التي فيها ميل إلى الشِّدَّة أكثر بروزا من الآيات التي فيها لين ولطف في عصرنا، رغم أنّ الرسول (ص) كان كثيرا ما يردد معنى قوله:  “إن خير دينكم أَيْسره، إن خير دينكم أَيْسره، إن خير دينكم أَيْسره “؟ الجواب أنّ المسلمين لا يزالون متخبطين في حالة حرب منذ أكثر من قرن: فمن حروب التحرير إلى الحروب العربية الإسرائيلية، ثم الحرب ضد الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، فالحرب ضد الأنظمة الطاغية، ثم الحرب بين السنة والشيعة… من الطبيعي، والوضع كذلك، أنْ يلجأ المسلمون اليوم إلى ترسانة الآيات التي نزلت في ظروف الحرب التي خاضها الإسلام ضد معارضيه في مكة وفي المدينة وضد اليهود، وذلك بغرض التعبئة وبغرض تبرير مواقفهم، لكن أيضا لأنّ التيار الإسلامي الحديث قد جفف القلوب وغلّظ المشاعر لدى شرائح واسعة من المسلمين، فيما بينهم أولاً، وضدَّ غيرهم بعد ذلك.

إنّ نظرة الإسلام للعالم لا يمكن أن تكون هي ذاتها في القرن الأول و القرن الخامس عشر الهجري.فالعلوم الإنسانية و العلوم الدقيقة تختلف فقط بين جيلين فكيف بها بين قرنين؟. وبناءً على ذلك يمكن الجزم بأنه لا يمكن أنْ يُؤَوَّلَ القرآن الكريم تأويلاً أبديّا صالحا لكل زمان ومكان، ولا تُستثنى من ذلك إلاَّ العبادات والشعائر المفروضة. فإذا اجتهد رجال في تأويلهم آيات القرآن حسب معطيات الزمان والمكان الذي عاشوا فيه، فهذا لا يعني إلزام الأجيال اللاحقة بتلك التأويلات و لقرون.  في كل مرحلة من تطور المعارف الإنسانية على الأقل مرة في القرن كما أوصى به وبطريقة غير مباشرة الرسول (ص)،علينا أن نعيد النظر في تأويل القرآن بناءا على ما استجد في العلوم.

إنَّ الطريقة التي جُمِع بها القرآن الكريم في عهد عثمان بن عفان هي أشبه ما تكون بعمل سياسي قامت به الدولة لتحافظ على الصالح العام آنذاك، ولم يكن ذلك بأمر من الله سبحانه ولا من الرسول (ص). إنّ هذه الملاحظة مِنْ شأنها أنْ تحرر روح المبادرة، فإذا أقررنا بأن المسألة بشرية بحتة، فما المانع من أن تتكفل مؤسسات مختلفة التخصصات بإعادة القرآن الكريم إلى ترتيبه الأصلي من أجل استعادة توجهه الأصلي أربعة عشر قرنا بعد غيابه ؟ هل يمكن أن يتحقق هذا ؟ نعمْ ولاَ. نعم، لأنَّ ذلك سيسهِّل عملية تكييف التفسير القديم مع الزمن الحاضر ومع المستقبل. ولا، لأنه من غير المعقول التفكير في سحب نسخ القرآن الكريم القديمة جميعا، وفي كل اللغات، واستبدالها بنسخة جديدة.

ليست الصعوبات التقنية هي ما يمنع من تحقيق هذا المبتغى، لكن الجمود الثقافي وثقل التقاليد الموروثة أقوى من الحقيقة ومن مصلحة الأمة، ذلك أن روح المبادرة التي تصرّف بها عُمَرُ وأبو بكر وعثمان وزيد ورجال من المؤمنين البسطاء، تلك الروح لا يمكن أن تظهر في وسط مستسلم للجهل والعنف ولقانون الشارع الذي يتحكم في توجيه الفكر و ينظم كل صغيرة وكبيرة من شؤون المجتمع.

وقد يحتجّ البعض بأنّ هذا التغيير في ترتيب آيِ القرآن الكريم لم يمنع الحضارة الإسلامية من أن تشعّ بنورها على أصقاع واسعة من المعمورة طيلة أزيد من سبعة قرون. هذا صحيح، لكن هذا الإشعاع لم يكن إلاّ بعد مُضِيِّ زمن غير يسير، وكان هذا بفضل ذلك التفسير الذي ضُبِطت آلياته وإمكاناته العقلية بكوابح صارت بمثابة حدود لا يتجاوزها إلى مجال اجتهاد أوسع. إنّ الحضارات ذات المنطلق الديني، والتي سبقت الحضارة الإسلامية ـ مثل الحضارة الهندية واليهودية والبوذية و والمسيحية مثل الحضارات الهندية ( الهند) واليهودية (إسرائيل) والبوذية (الصين و كوريا الجنوبية) الشنتوية (Shintoïste) (اليابان) والمسيحية ( أوروبا و أمريكا) ـ كانت أكثر إشعاعا من الحضارة الإسلامية لأن مجال رؤيتها لم يكن محدودا بعُيَيْنات تُضايقها، ولم تكن عقول مفكريها مُقيّدة بدوغماتية تحصر القوى الاجتماعية في الغيبيات وتصرفها عن معالجة المشاكل وإيجاد حلول عاجلة لها. إنَّ أغلب ما يُبذل في تَرِكَتِنَا الحضارية هو مطاردة المُذْنِبين الذين تُسوِّلُ لهم أنفسهم مخالفة القواعد “الأرثودوكسية”، خاصة منها ما يتعلق بالمرأة.

إنَّ المسلمين يفتخرون بأن الإسلام لا تُقيّده كنيسة ولا نظام كنسيّ. لكن، ماذا تمثل جحافل هؤلاء العلماء، والشيوخ، والدعاة، و تُلاة القرآن عبر الأثير، والموالي وآيات الله الذين يؤطرون ويُشرفون على أدقّ حركات الفكر والاجتهاد؟ أليسوا سلطة دينية فعلية، أليسوا نظاما كنسياًّ غير رسمي…إن لم نقل إنهم يمثلون سلطة ثيوقراطية حقيقية؟  إنّ القرآن الكريم يذكر أهل العلم دون أن يقرنهم و لا مرة بالممارسة الدينية لأنه يقصد بهم أولئك المتميزين بقدرات فكرية تؤهلهم للتواجد كل الأصقاع التي وصل إليها الإسلام ليضع فيها الأسس الأولى للعلوم الحديثة ويعطيها دفعة قوية لتسلك سبل بناء الحضارة الإسلامية. وقد سار الإسلام في هذا الطريق الصحيح إلى أن ظهر “العلماء” الذين طاردوا أهل العلم الحقيقيين ومنعوهم حتى من حق المشاركة في الفكر الديني. ولم يكتفوا باغتصاب حرم العلم، بل أضافوا إليه شيئا آخر عندما ألبسوا أنفسهم هالة “ورثة الأنبياء”.

لقد كان المسلمون أكثر ميلاً إلى التوكُّل وأهملوا الاجتهاد والتجديد رغم أنّ القرآن نبّههم مراراً إلى أنّ “ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ “( الأنفال. الترتيب الزمني 88، الترتيب الحالي 8. الآية 53). ويقول تعالى في هذا الشأن كذلك: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ  …” (الرعد. الترتيب الزمني 96، الترتيب الحالي 13. الآية 11). إنّ أكبر مقصد في روح القرآن الكريم هو تغيير أفكارنا، بينما اعتقد “العلماء” أنّ الأمر لا يتجاوز حدود الاهتمام بملبسنا وكيفية الالتحاء. والله أعلم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى