أراء وتحاليل

الفساد… الأنواع، التجليات و التأثير (03)

أ.د يوسف قاسمي*

وقفنا في الحلقتين السابقتين على موضوع الفساد، أصله، حقيقته وتطوره.. وبعضا من تجلياته.. في هذه المحاولة سنقارب و نجلي “مشكلة الفساد ” من جانب: الأنواع والآثار المترتبة عنه كسلوك فردي و ظاهرة مجتمعية مرضية مثل الوباء الذي يفتك بالجميع.

الحقيقة أن “الفساد” من حيث التمظهر و التجلي أشبه ما يكون بالحرباء التي تغير شكلها وألوانها، أو الأفعـى المجددة لجلدها؛ ذلك أن عموم الناس يلحظون أنواع الفساد المرئي المباشر ذو الطبيعة المادية الصرفة الذي عادة ما يكشف عنه الإعـلام في أخباره، ويظهر النشطاء الحقوقيون و كذا الساسة المعارضون في تدخلاتهم و حملاتهم الانتخابية… لتتحرك الضبطية القضائية و الأجهزة الأمنية لتفتح تحقيقات أولية عادة ما تنتهي بين القضاء وأروقة العدالة في صورة محاكمات للفاسدين المفسدين براءة أو إدانة وتجريما.  هذا فضلا عن باقي المعاملات ذات الصلة المباشرة بحياة المواطنين ومعاشهم.. من قبيل: السرقات المعزولة للأفـراد و المجموعات الإجرامية، الاختلاسات و التحويلات المنظمة للمال العام من قبل المسؤولين والمنتخبين، رشاوى المعاملات الإدارية واستصدار الوثائق غير الشرعية، الظفر بالمزادات و بالصفقات و المشاريع بالمحاباة و المزايا المخالفة للقانون، تولي المسؤوليات و تقلد المناصب لغير الأكفاء النزهاء، نهب العقار و الاستيلاء على الملكيات بعقود مغشوشة، التدخل في استقلالية القضاء واستصدار الأحكام استجابة لرغبة الجهات المتنفذة ولاء و طمعـا، الإعداد المسبق لقوائم الناجحين في مسابقات التأهيل و التوظيف، التزوير الانتخابي للإرادة الحرة للناخبين و توجيهها، الفساد الأخلاقي والمهني لدى علماء الدين و رجال الفكر و نجوم الإعلام، التملق والكذب والنفاق المتفشي وسط الحكام والزعماء ومحترفي البوليتيك… وغيره من أنواع الفساد الرائجة والمعلومة.

أما الوجه الخفي الأشـد خطورة وفتكا من أنواع “الفساد” و آثاره المدمرة للحاضر و المستقبل فبالكاد يلاحظ أو يرصد إلا لدى ذوي النظر والبصيرة، أو يكشف قد عنه من  قبل المحللين المتمرسين و الخبراء من ذوي الاختصاص و الاستشراف. لعل في مقدمة تلك الأنواع التي يغفل عنها الناس، لكنها – مع الوقت – تأتي على الأخضر واليابس في حاضر الناس و مستقبل الأجيال؛ إنه الفساد المستتر الفتاك… منه:

1- فساد الاعتقاد والنفوس: حيث يعيش الناس مؤمنين مطمئنين إلى اعتقادات خرافية توارثوها أبا عن جد؛ كما يتوارثون جينات النسب العائلي، و حقوق الميراث والملكية.. يتعلق بعض من تلك الخرافات بعقيدة الإيمان بالله و ما يعتريها من مظاهر الشرك والدجل والانحراف… من قبيل: توحيد الله في جانب العبادات دون توحيده في جانب الربوبية و الصفات؛ أي توحيده عند: الدعاء، التسبيح و الحمد والثناء في الصلاة، الصيام الحسي عن الأكل والشرب والجنس، المباهاة في الاعتمار وتحصيل لقب الحاج، إحياء المولد الشريف و الأعياد، المشي خلف الجنائز و قراءة فاتحة الكتاب… يقع كل ذلك في صورة أقرب إلى الطقوس والعادات منها إلى جوهر العبادة و استشعار رهبة الخشوع لله، ودون العمل بمقتضيات عقيدة القضاء والقـدر في الابتلاءات و انقضاء الآجال و تحرير مصدر النفع و الضرر لله، أو تفعيل واجب العمل والتوكل في طلب الرزق و الحاجات.. وغيرها. فشاع بذلك بين الناس الاعتقاد في منتحلي صفة الأولياء الصالحين و التردد عليهم لقضاء الحاجات، الاتكاء على وهم النسب الشريف و توارثه في الإمامة الدينية و الاستيلاء على الحكم، الولاء المنافـق للأشخاص و تملق الأجهزة المسكون بالخوف والرهبة تارة و طلب المصلحة و النفع تارة أخرى، تفشي مفهوم ” الإمعـة ” و ازدواجية المواقف المؤدية إلى الانفصام في الشخصية.. مجاراة رغبة الزعامات و التيارات، والتناغم المزيف مع الآراء و المواقف، التضحية بالمبادئ الثابتة و القيم السامية، وربما المتاجرة بالشرف الشخصي – الأخلاقي والمهني مقابل رضا الحاكم و المسؤول، أو الحصول على متاع مادي ساقط  الذي ينتهي بصاحبه إلى قبول هوان النفس والدنية و التعايش مع المنكرات و الدياثة..؟ هذا الفساد المستتر المعمم أصبحت معه الأكثرية من بني جلدتنا أشبه بالكائنات المشوهة الممسوخة التي لا لـون و لا طعم و لا رائحة لها..

2- فساد العقول وتزييف الوعي: إن حالة الإحباط المعنوي وتفشي مظاهر القلق مع غياب الأمن النفسي وعدم الاطمئنان للرزق والمآل، والهوان العام.. كلها انعكاسات وآثار مدمرة لوباء “فساد الاعتقاد والنفس” الفتاك الذي ضربنا في صميم وجودنا، و عطل أشواقنا و تطلعاتنا في العيش الحر الكريم، والحياة الطيبة الهنيئة. وهي آثار طبيعية ومنطقية نراها جميعنا في: أحاديثنا و تفاعلاتنا اليومية داخل المنازل و في أماكن العمل، في الأسواق والطرقات… أنتجت غيابا للرغبة وفقدانا للشهية و تذوق معنى الحياة الجميل. لعـل أبشع صور تجليه و أسلوب التعبير عنه هو محاولة البعض التخلص المشين من نفسه أو من الآخر؛ عبر الانتحار و الحرقة نحو المجهول تارة، أو ممارسة العنف الإرهابي و الترويع و القتل اليومي.. تارة أخرى. للأسف الشديد فإن القليل النادر من يدرك و يعي و يكشف محذرا من هذا النوع الخطير من الفساد؛ و هو فساد و إفساد ذو أثر متعدي على الفرد والمجتمع بل و العالم حاضرا و مستقبلا…

ذلكم هو فساد النفس، العقول و تزييف الوعي… يجب أن نعترف – بمرارة و ألم شديدين- بأن جل أدمغة ساكنتنا في بيئتنا الوطنية و العربية اليوم خاوية لا تحمل مضمونا ذا قيمة، و لا تقوى على الإدراك الواعي المسؤول لقضاياها و رهاناتها المصيرية.. بسبب غياب شبه كلي لتفعيل فريضة التفكير و التدبر المنصوص عليها شرعا و المطلوبة عصرا.. ؟ مشكلتنا ليست بيولوجية أو عضوية، إنما هي أزمة مكتسبة مستدامة شكلتها تراكمات نفسية، سوسيو- ثقافية و تاريخية سياسية من ناحية، فضلا عن كونها محصلة لنمط تربوي تكويني وتعليمي هزيل و مؤدلج، متخلف معرفيا ومنهجيا عن روح العصر؛ مغذي ومعزز -للأسف- لمنطق السكونية؛ السلوك الاستهلاكي السلبي فضلا عن الاستسلام الغبي ؛ حتى أصبحنا نتيجة كل ذلك تابعين لغيرنا – خاصة أعداءنا التاريخيين- يصدرون لنا الأفكار والمذاهب، برامج العلوم والمناهج والتقنيات ( لجنة بن زاغو و دعاوى إصلاح المنظومة التربوية + الخبراء الفرنسيين الذين استقدمتهم الوزيرة بن غبريط… الخ)، بل وصل الحد بنا أن أصبحنا نبتاع المأكل والملبس والمراكب، الأدوية والمنظفات ومساحيق الزينة، مقويات الجنس و سلالات تحسين الإخصاب، و سائل الترفيه المادي و المعنوي، وحتى أكفان الأموات و طقوس الجنائز.. من عند غيرنا. في الوقت الذي اكتفينا و رضينا  فقط بتحقيق انجازات طموحة لم تتعد إشباع شهوتي البطن و الفرج؛ الجدال والسجال حول موضوع خروج المرأة وتعلمها وعملها من عدمه، تفعيل فقه الولاء والبراء للحكام الظلمة المستبدين.. فضلا عن إحياء سنن التعدد وزواج المتعة، ونكاح الجهاد و الأفخاذ ؟ أما بقيتنا الباقية فتجده تائها بين التشيع لفريقي البارصا أو الريال، أو منخرط في حروب الدواعش العربية، وموالاة بني العمومة من الصهاينة والأمريكان لقتل الإخوة الأشقاء.. ؟

3- فساد الأخلاق والعلاقـات الاجتماعية: أحسب أن فساد النفوس والعقول أفضى إلى فساد شامل أعظم طال منظومتنا القيمية والأخلاقية، وأتى على بنيتها العضوية بالكامل. فأخلاق الدين من: صدق وأمانة، المروءة و حسن الجوار، العفة و طهارة الباطن، صلة الرحم و القربى، الإيثار و الكرم، الرفق والسماحة، التضحية و الوفاء.. أصبحت كلها في واقع حياتنا ومعاملاتنا من الماضي التقليدي المتخلف الذي هجره الناس، إن لم نقل بأنها لدى البعض الآخر أضحت سلعة رخيصة تباع في المزاد تماما كالسلع الكاسدة البالية.. ؟؟ كذلك الأمر نفسه بشأن الأخلاق العامة المدنية و القيم الوطنية؛ حيث أصبحنا أعداء: لثقافة الانضباط و احترام النظام العام، الالتزام بالعمل و القيام بالواجبات، حس النظافة   و العناية بالذوق، التعاون و التضامن، حماية البيئة و الرفق بالحيوان… وغيرها.

أما الارتباط بالهوية و الاعتزاز بها فقد تحول إلى سبة و معرة و تخلف… في حين الانسلاخ عن الأصالة و تجاوز تقاليد المجتمع فأضحيا عنوانا للتمدن و الحداثة و الرقي، بل وجدنا في المدة الأخيرة – و باسم الحراك الشعبي- من يتلاعب بحس الوطنية و قيم المواطنة وبعد ذلك شطارة سياسية، كما أن الإستقواء بالأجنبي ضد بني الوطن فقد يدخل   – في منطق الأقلية المستقورة- ضمن ثقافة الحقوق و الحريات والعيش المشترك ؟؟… وعن  توظيف الذاكرة و ركوب التاريخ لاسترجاع العذرية ونيل الشرعية… فصار أسا  و قاعدة لتوارث الحكم و الانفراد بتأبيد السلطة حتى الممات.

للأسف الشديد فإن ذلك “الفساد الأخلاقي” الممنهج أنتج ” فساد العلاقات الاجتماعية”؛ حيث انعدمت الثقة في المعاملات، و ساد الخوف من كل شيء، وعمت سلوكات الأنانية والأخلاق النفعية المادية في: علاقة الأبناء بالأولياء، الزوجة بالزوج، الطالب بالأستاذ، المريض بالطبيب، الإمام بالمصلين، التاجر بالزبون، المواطن بالمسؤول.. فطالت تلك البرغماتية البشعة حتى علاقة المخلوق بالخالق؛ فلا يذكر الله إلا عند حلول القحط وقلة الغيث، أو عند دوي الرعد و حلول الضرر أو الكوارث..؟؟

ذلكم – أيها السادة الكرام- حال و واقع الفساد الأعظم الذي تفشى بينا وحل بعالمنا اليوم، أحسبه عقابا من الله -عز وجل- على انحرافنا على الفطرة التي خلقنا عليها أولا، و بسبب تراجعنا عن القيام بوظيفة التدبر في الأنفس و الأفاق واكتشاف قوانين الوجود واستخلاف الله في الأرض ثانيا.. فضلا عن عدم القيام بواجب الشهـادة على الناس و الخلق ثالثـا. يتحمل الوزر الأكبر عن مسؤولية هذا الفساد-البلاء: العلماء و النخب العلمية بفسادهم وإفسادهم و التقاعس عن القيام برسالتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و واجب التنوير في المجتمع…  ثم يليهم الساسة و غيرهم… وهو موضوع حديثنا و مقاربتنا في الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة.

 

* المنسق الوطني لمبادرة منتدى النخبة والكفاءات الوطنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى