بين الفكر والسياسة

العهدة الرابعة: أهل سرعة التنفيذ وعُلوّ الهمّة

بقلم نور الدين بوكروح
ترجمة عبد الحميد بن حسان

 

جاء، ورأى ما رأى، ورجع إلى حيث أتى تاركاً إيانا فريسةً لعدة تساؤلات: لماذا جاء؟ ماذا رأى؟ وماذا جنى مِن نتائج باستثناء الاتفاقية حول الغاز الصّخريّ؟ وكأنّ هذه الألغاز لم تكن كافيةً، إذ أضاف لها فرانسوا هولاند مشكلة معجمية كانت أثقل ما يكون على أفهامنا، وذلك باستعماله كلمة (Alacrité) التي يوصف بها الإنسان الذي يأتي بعظائم الأمور ببرودة تامة. وهو المعنى الذي يشير إليه الشاعر العربي المتنبي في قوله:

 

وتَعْظُمُ في عينِ الصَّغيرِ صِغارُها وتصْغُرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ

وهذا المعنى لا تعرفه إلاّ أقلّيّةٌ قليلة، سواء هنا في الجزائر أو في فرنسا، باستثناء أعضاء الأكاديمية الفرنسية. وإذا كانت كلمة (Célérité) التي تعني سرعة التنفيذ، لا تطرح إشكالاً كبيرا، فإنّ (Alacrité) كلمة مجهولة تماما عند عامة الناس من الفرنسيين والجزائريين.

 

وَرَدَتْ هذه الكلمة في التصريح الذي أدلى به الرئيس الفرنسي بعد لقائه مع نظيره الجزائريّ، والذي جاء فيه: ” وجَدْتُ لدى الرئيس بوتفليقة تحكّماً فكرياًّ عالي المستوى، بل إنه من النّادر أنْ نلتقي رئيس دولة يتمتع بهذه الهِمّة العالية وبهذه القدرة على الحُكم على الأشياء…”.

 

إنّ كلمة (Célérité) مشتقّة من (Celeritas) و (Alacrité) مِن (Alacritas)، وكلاهما من أصلٍ لاتينيّ، وتشتركان في مفهوم السرعة والحركة. فالأولى تعني السرعة، والثانية تعني “الحُبور الانسيابي”. وكُنتُ شخصياًّ لا أُميّز بينهما حتى تبادرتْ إلى ذهني فكرة النظر في المُعجم، وهنا تساءلْتُ عمّا إذا لم يقع لهولاند ما وقع لي، لأننا لو استبدلنا (Alacrité) بـ”الحبور الانسيابي” (Gaieté entrainante) لأصبحت الجملة عرجاء: “رئيس دولة يتمتع بهذا الحبور الانسيابي وبهذه القدرة على الحُكم…”، لا. إنّ الكلام لا يستقيم بهذا الشكل.

 

هذا إذا لم يدخل رئيسنا خلال المقابلة في حالة من الضحك الجنوني، لِعِلْمِه بأن الرئيس الفرنسي ميّال إلى المزاح والدّعابة. لكنْ، حتى لو افترضنا ذلك فإنّ هولاند كان عليه أن يستعمل رابطة بين Alacrité و Capacité. والحال أنه لم يستعملْها، حسبما جاء في التقارير الصحفية. فكان عليه أنْ يتفادى الوقوع في هذا الانزلاق لأنه كما لا يليق ذكر الحبل لأهل المشنوق لا يليق أن نتحدث عن الانسياب بخصوص رجلٍ عاجزٍ عن الحركة. ولنكْتفِ بهذا القدر فيما يخصّ الناحية الشكلية وننظر في المضمون.

 

لو أنّنا فاجأْنا هولاند بسؤالٍ حول الرؤساء الفاقدين لـ ” القدرة على الحُكم على الأشياء ” فهل سيخطر بباله رئيس من رؤساء أوروبا أو أمريكا أو آسيا أو أستراليا وإفريقيا السوداء؟ الواقع أنه لا وجود لرئيس وصل إلى حالة رئيسنا. قد يخطر ببالنا كاسترو الذي التقى به هولاند منذ أسابيع قليلة في هافانا، لكن حتى كاسترو لم يعُدْ يُمارس أية وظيفة رسمية منذ عدّة سنوات.

 

لا أجد إلاّ حالة واحدة يمكن أن ينطبق عليها تصريح هولاند في الندوة الصحفية التي عقدها في الجزائر: إنّها حالة عالِم الفيزياء الفلكية البريطاني ستيفن هاوكين Stephen Hawking الذي أثبت وجود “الثقوب السوداء” والذي أُصيب بمرض نادر منذ شبابه أدّى به إلى الإعاقة الجسدية الكاملة . ومنذ ذلك اضطُرّ إلى العيش في كرسيّ مُتحرك مُهيّإٍ تهيئة خاصة ومُتّصل بحاسوب صُنِعَ له خصّيصاً.

 

وستيفن هاوكين عبقري لا يزال عضواً عاملاً في المجتمع العلمي، وقليلون هم الذين يمكن أنْ يُضاهوه في ذكائه و” تمكّنه الفكريّ” و ” قدرته على الحكم على الأشياء“.

 

لماذا لا يرِدُ علينا من أخبار بوتفليقة إلاّ القيل والقال، بوساطة مرسولين من أهل الطموح أو من الخدم الطّائعين؟ لماذا يعتقد أنّ ظهوره في حالته أمرٌ لائق أمام الأجانب، لكنه يستحي أن يظهر أمام ذويه إلاّ إذا كان من بعيد وبواسطة صور ٍ مُزوّرة؟ لماذا لا يُكلِّمُنا في التلفزة كي نطمئنّ كما اطمأنّ هولاند على تمتّعه بسرعة التنفيذ، بل وحتى بعلوّ همّته؟

 

إنّ ما يحدونا إلى تصديق هولاند ليس أكبر ممّا يحدونا إلى تصديق أويحي عندما أعْلَمَنا في الأسبوع الماضي بأنّ الرئيس قد استرجع ” 150% من قدراته”. وإذا كان الأول قد كذب علينا حرصا على مصالح بلاده التي لن تجد راعيا أحسن من رئيس منهار وحريص على شهادةٍ مادحةٍ ومُطْرية، فإنّ الثاني لم يكذب علينا إلاّ حفاظاً على مصلحته الشخصيّة. وكلّ هذا يُذكّرني بمشاهد من الفترة الاستعمارية أُفضِّلُ ألاّ أُذكِّركم بها كي لا أدفع بكم إلى الانتحار.

 

لوسوار دالجيري 18 جوان 2015

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى