بين الفكر والسياسة

العهدة الرابعة:سحر النموذج الفرنسي

بقلم نور الدين بوكروح
ترجمة عبد الحميد بن حسان

” إذا ما اختبرنا الرجل واطّلعنا على هوان شأنه، ثُمّ رأينا أنّه حقق نجاحاً باهراً، استحال على العقل ألاّ يحسّ ببعض الفُجاءة. إنّنا نتساءل: كيف فعل ذلك؟ وعندما نُحلّل المُغامرة وصاحبها لا نجد في أعماق الرّجل ومسلكه غير شيئين اثنين: الحيلة والمال…”. فيكتور هيجو (Victor Hugo) نابليون الصغير ( Napoléon le Petit) .

إنّ مراجعة الدستور ليست غايةً في حدّ ذاتها، ولا معنى لها إلاّ بالنظر إلى الأهداف التي يرجوها القائم بها. ويُفترضُ أنّ المراجعة الدستورية القادمة ستكون قادرة على أخذ العبرة من الأخطاء والتجاوزات لتي ارْتُكِبَتْ في الماضي، وأن تتمكن من استباق الأخطار المُحدقة بالمستقبل. فلا بُدّ، عند القيام بالمراجعة، من استلهام المُدوّنة الوطنيّة التي تضمّ كلّ الدّساتير السابقة وكلّ النّصوص التي تأسست عليها الدولة الجزائرية، وذلك بأخذ الصالح وتصحيح ما ننوي إلغاؤه في الاتجاه الإيجابيّ. وكذلك يجب الاستفادة من تجارب الشعوب في الماضي والحاضر، سواء منها الشعوب القريبة منّا قرابة جغرافية مثل تونس ما بعد الثورة، أو الشعوب القريبة منا من حيث الثقافة السياسية، مثل فرنسا التي استلهمنا تجاربها في الماضي عندما كان علينا أن نصوغ نصوصنا التأسيسية، وكذا دساتيرنا، في بعض جوانبها.

وبالفعل، فإنه يمكن أنْ يُراجَع الدستور بهدف الإتيان بجديد، كما يُمكن أن يُراجع لمصلحة شخصٍ وبالمُقابل تدفع الأمّة ثمن ذلك غالياً. فبعد الثورة الفرنسية و”الإعلان عن حقوق الإنسان والمُواطن” سنة 1789، ثُمّ الإعلان عن قيام الجمهورية الأولى سنة 1793، لم تتمكن فرنسا من تفادي العودة إلى النظام الملكيّ والاستبداد بالسلطة تحت غطاء تمويهات مختلفة، وتجسّد ذلك في (النظام القنصلي Consulat) أو ( الاستتباب Restauration) أو (الإمبراطورية Empire). واستمرّت الحال كذلك حتى سنة 1870 بعد أن مرّت عليها ثلاثة أنظمة ملكية دستورية، وجمهوريتان، وإمبراطوريتان. ولم يتِم لفرنسا تطليق النظام الملكيّ بصفة نهائية إلاّ سنة 1879 وأُسّس النظام الجمهوري الذي نعرفها به اليوم.

وبمجيء الجمهورية الثالثة التي قامت على أساس القوانين الدستورية الصادرة بين 1875 و 1879 تمكنتْ فرنسا من إرساء هرم الديمقراطية الفرنسية بالقوانين الخاصة بحرية الصّحافة، والتعليم المجاني والإجباري، والتعليم العام اللاّئكي، واعتماد النقابات والجمعيات، وفصل الكنيسة عن الدولة، والعطل مدفوعة الأجر، والاتفاقيات الجماعية، والأسبوع بأربعين ساعة… وكانت هزيمة فرنسا في معركة سيدان Sedan سنة 1870 سبباً في إصدار الدستور الذي استمرّ حتى هزيمة 1940 مع ألمانيا. وجاء دستور 1946 لتولد معه الجمهورية الرابعة التي استلهمها الجزائريون في صياغة مواثيق الثورة الجزائرية والهيئات التي ستقودها. وقد ألغي هذا الدستور بدوره سنة 1958 في خضمّ الأحداث المرتبطة بالثورة الجزائرية.

واستغرقت الفترة التي قضاها الفرنسيون في دخولهم النهائي إلى عهد الجمهورية وعهد الديمقراطية قرناً من الزمان تقريباً، وهُما الإنجازان اللذان يُفترضُ أن يكونا مُتلازميْن، إلاّ في العالم العربيّ الذي لا توجد فيه أية جمهورية ديمقراطية باستثناء جمهورية تونس الناشئة بعد سنة 2011. ولقد استهلك الفرنسيون أربعة عشر دستورا وقدّموا آلاف الضحايا في مسيرتهم تلك. وإذا كان علينا اعتماد نموذجهم كمقياس، يمكن القول أن مسيرتنا ما زالت تنقصها أربعا وثلاثين سنة. لكن عامل الزمن ليس هو العامل الوحيد الذي يدخل في الحسبان، فهناك صعوبة اختيار الاتجاه الذي ينبغي أن نسلكه. ولهذا يصبح لزاماً علينا أن نفعل مثلما فعلوا، أي أن نتّبع سبل الرّقيّ المُضيئة بدلاً من الارتماء في أحضان النموذج الأفغاني.

وهناك العديد من الأمثلة الأخرى عن التراجع من الديمقراطية إلى الاستبداد، ومنها ما جرى في ألمانيا عندما انتقل الحكم من “جمهورية فايمار التي تأسست في 1919″ إلى النظام الأحادي في عهد”الرايخ الثالث ابتداءً من 1933”. ومنها كذلك ما جرى في الجزائر حيث جاءت المراجعة الدّستورية سنة 2008 لتُلغي تحديد عدد العُهدات الرّئاسية واقتسام السلطة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.

أمّا النصوص التّأسيسية للدولة الجزائرية فهي: “نداء أول نوفمبر 1954″، و ” وثيقة مؤتمر الصومام”( 1956)، و “مؤتمر طرابلس” (1962). ولا يتمتع بالإجماع الكامل وبالاحترام إلاّ النص الأول، أما النصان الثاني والثالث فهما محلّ خلاف. إنّ هذه الوثائق يمكن الاطّلاع عليها في موقع رئاسة الجمهورية، لكن المؤسف أنّ أحداً لم يُفكر في تنقيح الصيغة الفرنسية بتصحيح ما فيها من أخطاء الرقن، وكذا أخطاء لغوية وإملائية ونحوية، وأخطاء في علامات الوقف. وأكتفي هنا بالإشارة إلى خطإٍ واحد: اللّبس الواقع بين كلمة Décade التي تعني: عشرة أيام، وكلمة Décennie التي تعني : عشر سنوات. وهذا اللّبس موجود في كلّ من “نداء 1 نوفمبر 54” و “برنامج مؤتمر طرابلس”. ألا يوجد في الأعلى شخص ينبري إلى القيام بهذه المهمة البسيطة لكي يُنقذ ولو طرفاً صغيراً من كرامتنا؟

جاء “نداء 1 نوفمبر” ليُحدِّدَ أهداف الاستقلال الوطنيّ، وعلى رأس تلك الأهداف: “بناء الدولة الجزائرية السيّدة الديمقراطية والاجتماعية في إطار المبادىء الإسلامية”. ولم تكن هذه الصيغة من ابتكار اللجنة الثورية للوحدة والعمل CRUA، ولا من إنتاج الثنائي المتكوّن من محمد بوضياف و ديدوش مراد اللذيْن أُسْنِدتْ لهما مهمّة تحرير الوثيقة. فهي صيغة موجودة في “لائحة السياسة العامة” التي تبنّاها المؤتمر الثالث لحزب فرحات عباس (الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري UDMA) الذي انعقد في شهر أكتوبر 1951، حيث نصّتْ تلك الوثيقة على “بناء جمهورية جزائرية ديمقراطية واجتماعية”.

وكان حزب مصالي الحاج (PPA-MTLD) آنذاك في عزّ أزمته، إذ رفض أعضاء اللجنة المركزية الرضوخ لإصرار مصالي على تسيير الحزب حسب رغباته، ولذلك قاموا بعقد مؤتمر في أفريل سنة 1953، حيث جرى نقاش حول طبيعة الدولة الجزائرية في المستقبل. وكان من بين المؤتمرين من كان يميل إلى النظام الملكيّ، ومن بينهم من مال إلى الجمهورية الإسلامية. لكنّ كلا الاقتراحيْن لم يحْظَ بالقبول. وسيتمّ في الأخير تبني النظام الذي أشار إليه ” نداء اللجنة المركزية للـ MTLD من أجل عقد مؤتمر وطنيّ جزائري” بتاريخ 10 ديسمبر 1953، والذي يدعو إلى ” دولة جمهورية، ديمقراطية واجتماعية”.

إنّ تلك المخاضات العسيرة التي جرت حول مستقبل الأمة الجزائرية والمصطلحات التي استُعملت آنذاك لم تكن من ثمار تفكير جزائريّ، لكنها كانت نتاج تأثُّر التيار الوطنيّ الجزائريّ بالثقافة السياسية الفرنسية اليساريّة. وبالفعل، فإنّ الدستور الذي قامت عليه الجمهورية الثالثة، وكذا دستور الجمهورية الرابعة التي تأسّست في أكتوبر سنة 1946، كانا يشيران إلى أنّ: ” فرنسا جمهورية موحّدة، لائكية، ديمقراطية واجتماعية”. أمّا إضافة ” في إطار المبادىء الإسلامية” فجاء كمقابل لـِ ” لائكية” التي لم يكن بوسع القادة الجزائريين آنذاك أن يتحملوا تبعاتها. وإضافة إلى ذلك فإننا نجد في هذين الدستوريْن الفرنسييْن ذلك الشعار الذي نصت عليه الدّساتير الجزائرية من سنة 1963 إلى يومنا هذا، وهو: ” مبدؤها هو: من الشعب وإلى الشعب”.

إنّ هذا الانبهار العفويّ أو الإراديّ بالثقافة السياسية الفرنسية، نستشِفّه بشكلٍ أوضح في الخيارات التي تمّ تبنّيها فيما يخصّ تسمية الهيئات المُسيّرة للثورة الجزائرية بين سنتي 1954 و1962، وهي: “جبهة التحرير الوطني” (FLN) و “الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية” (GPRA) و “المجلس الوطني للثورة الجزائرية” (CNRA)، إذ يتّضح أنّ الأولى لم تكن إلاّ نقلاً لـ”اللجنة الفرنسية للتحرير الوطنيّ” (Comité français de libération nationale CFLN) والذي أسسه ديغول و جيرو سنة 1943، كما يتضح أنّ الثانية لم تكن إلاّ نقلاً لـِ “الحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية” (GPRF) التي تأسست سنة 1944 كبديل عن الـ( CFLN)، أمّا التسمية الثالثة فكانت نقلاً لـِ “المجلس الوطنيّ للمقاومة الفرنسية ” (Conseil national de la résistance française CNRF).

إنّ شارل دوغول لا ينحدر من سلالة الأشراف الفرنسيين القُدامى رغم أنّ اسمه يوحي بذلك. لكن كلّ ما يمكن أن تعتزّ به فرنسا في القرن العشرين مُرتبط بهذا الاسم ارتباطاً قوياًّ، إذ هو الذي أنقذها مرتين بفضل نظرته الصائبة إلى العالم وبفضل القرارات الرّشيدة التي اتّخذها: أنقذها أثناء الحرب العالمية الثانية وأنقذها من مأزق حرب التحرير الجزائريّة. ولا تزال أفكاره وإرثه الفكريّ والسياسي إلى يومنا مصدر إلهام للطبقة السياسية في فرنسا، سواء منها اليسار واليمين.

كان رجلاً عملاقاً بالمعنى المباشر (فقامته كانت أكثر من مترين)، وبالمعنى المجازي كذلك. وكان هو نفسه مُقتنعاً بعظمته، ولم يكن يتردّد في ردع كلّ من تُسوّل له نفسه تناسي ذلك. فممّا يرويه كُتاب سيرته أنّه كان في زيارة لإحدى مقاطعات فرنسا، فإذا بأحد مُقرّبيه يحاول أنْ يُلفِت انتباهه إلى أنّ حاكم المُقاطعة الذي جاء لاستقباله كان أكبر منه، فصُدِم ديغول وأفحمه بهذه الإجابة:”بل قُل إنه أطول مني قامةً !”

ولمّا حاولت إحدى وسائل الإعلام الفرنسية أن تسخر من بوتفليقة لقصر قامته أجاب بذكر قامة نابليون الأكبر. لم يقُلْ إنه ” أطول منه قامةً ” ولا ” أكبر منه”، لكنه صرّح بطريقة مُلتوية بأنه يفوقه بسنتيمتر أو سنتيمتريْن. ولا شكّ في أنّ السّؤال لم يفاجئ بوتفليقة، لكن إجابته كانت مُفاجئة بالنسبة للصحفي الذي قد يُخمِّن أنها إجابة جاهزة ولم تكن عفوية. ومهما يكن، ففي كلا المثاليْن نلاحظ أنّ ” الأطول قامةً ” لم يكن هو الأعظم والأكبر شأناً.

و ممّا يُثير العجب في تاريخ فرنسا أنّ رجليْن من أسرة واحدة، ويفصل بينهما نصف قرن من الزمان، قد قام كلّ واحد منهما بانقلابٍ في فرنسا، وهما الانقلابان الوحيدان اللذان عرفتهما. وبما أنهما لم يكونا من سُلالة ملكية فلم يكن باستطاعتهما تبني النظام الملكي، بل تبنّيا النِّظام الأمبراطوريّ . ويتعلّق الأمر بنابليون بونابرت الذي قام بانقلابه سنة 1799 (18 Brumaire) ، وذلك بتمديد العهدة القنصلية التي كان هو عضواً فيها إلى عشر سنوات، ثمّ قام بتمديدها إلى مدى الحياة لمّا صار هو القنصل الأوّل، وأخيرا جاء إعلانه عن تتويج نفسه “أمبراطوراً للفرنسيين” سنة 1804.

وبعده بنصف قرن جاء لويس نابليون بونابرت الذي لقّبه فيكتور هيجو في إحدى أهاجيه بـ”نابليون الأصغر” ليقوم بالانقلاب الثاني، وذلك عندما اغتنم ظروف الثورة سنة 1848 وانتُخِب نائباً، وبعد التصويت على الدستور الجديد الذي أعاد تأسيس الجمهورية تمّ انتخابُه كأوّل رئيس للجمهورية في تاريخ فرنسا بمساندة فيكتور هيجو خاصةً الذي سيدفع ثمن هذا الخطإ بعشرين سنة من المنفى. وكان نابليون الأصغر يدّعي أنه من سُلالة نابليون الأكبر، لكن التحاليل الحديثة للميراث الجينيّ كذّبت هذا الادّعاء.

وجاء دستور سنة 1848 لتظهر فيه وظيفة رئيس الجمهورية الفرنسية الذي لا يُنتخب إلاّ لعهدة واحدة من أربع سنوات، ويُقرّر قاعدة أنّ إعادة انتخاب نفس الشخص لا تكون إلاّ بعد انقضاء أربع سنوات من نهاية عهدته الأولى. هذا بالإضافة إلى إحداث منصب نائب رئيس الجمهورية.

ومما جاء في التمهيد لهذا الدستور: ” تمّ تأسيس فرنسا كجمهورية. وبتبنّيها هذا النظام من الحكم فإنّ الهدف الذي تصبو إليه هو أن تسير بحرية أكثر في طريق التطور والحضارة…”. وجاءت المادة الأولى لتَسُدّ الطريق في وجه كلّ تراجُعٍ إلى الخلف، وممّا جاء في ذلك: ” إنّ السيادة ملك لكل المُواطنين الفرنسيين. وهي من الثوابت التي لا رجعة فيها. ولا حق لفرد ولا لأي طرف من الأطراف في الشعب أن يستحوذ عليها”.

أمّا في المادة الخامسة فجاء التأكيد على انّ الرئيس ” لا يمكنه بأية حال من الحالات أن يُعلّق صلاحية الدستور والقوانين”. ومع ذلك فهذا بالضبط ما سيقوم به لويس نابليون بونابرت رغم صمّامات أمانٍ أخرى كان يُظنّ أنّها تحمي الدستور، ومثال ذلك ما جاء في المادة 110 التي تنصّ على أنّ ” المجلس الوطنيّ يضع هذا الدستور والحقوق التي ينصّ عليها أمانةً بين يدي الروح الوطنية لدى كلّ الفرنسيين”. وكان عدد الفرنسيين آنذاك 37 مليوناً، أي مثل عدد سكان الجزائر اليوم. وكانت اليمين الدستورية التي أدّاها لويس بونابرت، والواردة في المادة 43، تنصّ على ما يأتي: “أُقْسم بأنْ أبقى وفياًّ للجمهورية الديمقراطية الموحدة، وأن ألتزم بكل الواجبات التي يفرضها عليَّ الدّستور”.

في مطلع سنة 1851 قام بتغييرات في السّلم العسكري ليُنصّب عناصر وفيّة للغاية التي كان يسعى إلى تحقيقها. وهكذا بدأ تنفيذ الانقلاب. وكان أقرب مُستشاريه، وعقله المُدبّر هو أخوه شارل دو مورني، وهو رجل أعمال سيجعله وزيراً للداخلية ثمّ رئيساً للبرلمان كي يضمن خضوعه له. وعند اقتراب نهاية عهدته عَمَدَ إلى تغيير الدّستور كي يتسنّى له التّرشّح ثانيةً للانتخابات.

وبتاريخ 14 جانفي 1852 وجّه إلى الشعب الفرنسيّ بياناً يعلنُ فيه ما يلي: ” قُلتُ لنفسي: بما أنّ فرنسا ليست سائرة منذ خمسين سنة إلاّ بناءً على تنظيم القنصلية والإمبراطورية، فماذا يمنعنا من تبني المؤسسات السياسية الخاصة بتلك الفترة؟… وهذا ما دعاني لأعرض عليكم القواعد العامة لدستور مقتبس من دستور عام 8″. وكان النص الذي اقترحه ينص على تمديد العهدة الرّئاسية من أربع إلى عشر سنوات، لكن كان لا بدّ من المُصادقة عليه من طرف أغلبية ثلثي أعضاء المجلس الوطنيّ. وكانت تنقصه 94 صوتاً (كانت نتائج التصويت هي 446 نعم و 278 لا).

وبتاريخ 2 ديسمبر 1852 قام بحلّ المجلس وأعلن عن قيام الإمبراطورية الثانية بعد أن حصل على الموافقة الشعبية باقتراع عام. أمّا النّواب الذين عارضوا هذا الانقلاب فقد ألقي عليهم القبض وسُجنوا. وفي الرابع من نفس الشهر كان قمع جماهير المتظاهرين على يد الجيش، وشمل القمع كلّ تراب فرنسا، وكانت الضحايا تُعدّ بالآلاف. وجاء الدستور الجديد المنسوج على مقاسه ليجعل الأحكام القضائية تصدر باسمه الشخصيّ وليس باسم الشعب (المادة 7)، وليصير الإمبراطور محتكرا لحق إصدار القوانين (المادة 8)، أمّا الوزراء والنواب ورجال القضاء والموظفون والضباط، فعليهم جميعاً أن يؤدوا اليمين بالوفاء له (المادة 15 )… ولا بدّ من الإشارة إلى أن هذا الدستور هو الذي قرّر أنّ ” التراب الجزائري وباقي المستعمرات يعتبر جزءا من التراب الفرنسيّ” (المادة 109).

وفيما يلي مُقتطف من الكُتيّب الذي ألّفه فيكتور هيجو وتناول فيه الملمح المعنوي لنابليون الأصغر والذي خصه به سنة 1852 منذ نفيه إلى بلجيكا: ” ماذا يستطيع أن يفعل؟ كلّ شيء ! وماذا فعل؟ لا شيء ! فما كان يتمتع به من نفوذ كان يكفي لرجلٍ عبقريّ أنْ يُغيّر به وجه فرنسا، بل وربما حتى أوروبا. غير أنّه استولى على فرنسا، وهو لا يعرف ماذا يفعل بها. ومع ذلك فالله يشهد بأن هذا الرجل كثير الحركة: فهو دائم الهيجان، ويريد أن يسيطر على كلّ شيء، كما أنه دائم الجري وراء المشاريع. ونظراً لعجزه عن الإبداع فهو يُصْدِر الأوامر، ويحاول التغطية على تفاهة شأنه. وفعلاً، إنها الحركة الدائمة، لكن وا أسفاه ! إن هذه العجلة تدور في فراغ… إنه يحب مظاهر التمجيد والنياشين والكلمات الفخمة، وكلّ ما فيه رنين أو بريق، وكلّ البهرج الذي يوشح السلطة. إنه يتمتع بامتيازات الريع، ويملك البنوك والخزينة… إنّ هذا الرجل لا يُفكّر، بل ينقاد لنزقه، وهو مضطرّ لإشباعه… أيها الفرنسيون، اجروا وراء الصفقات المُربحة، وازدادوا ثراءً، وانفخوا بطونكم، فنحن لسنا في زمن العظمة كي تسعوا لنكون شعبا عظيماً وقوياًّ، ولتكون فرنسا أمة حُرّة… ويُضاف الجور والظلم إلى كلّ هذا، فهو يدوسها بقدميْه ويسخر منها ويصدمها ويشتمها ويُهينها ! فما أتعس هذا المشهد الذي نراه بين أعيننا، مشهد هذا الفارس الذي يصول بغير غاية والذي لا يعدو أن يكون رجلاً دنيئا لم تعد توقفه كلّ القيود”.

 

وبعد القوانين الدستورية التي أعطت للجمهورية الثالثة شكلها وكفلتْ لها رقماً قياسيا في الامتداد الزمني منذ 1798، جاء دستور سنة 1958 الذي يكاد يمحو هذا الرقم القياسي لأنه طالما تعرّض للتعديل حسب تطوّر المجتمع الفرنسيّ والعالم، إذ تمت مراجعته 24 مرة من 58 إلى 2008، وهو التاريخ الذي أعاد فيه ساركوزي عدد العهدات الرئاسية إلى اثنتين، وكان شيراك قبله قد قلّص مدة العهدة من سبع سنوات إلى خمس. والدستور الفرنسيّ اليوم يتكوّن من وثيقة ” الإعلان عن حقوق الإنسان والمُواطن” الصادرة سنة 1789، ومن “تمهيد” بنفس صيغة دستور 1946، ومن متن فيه 106 مادة. وهذا الدستور الجديد ينص، بعد حقوق الإنسان، على حقوق الطبيعة، وذلك بإدراج ميثاق فيه عشر مواد حول البيئة.

 

تخلّى ديغول، مؤسس الجمهورية الخامسة، عن مهامه قبل نهاية عهدته الثانية وبعد أن قدّم خدماتٍ جليلة لبلاده، حيث طوّر اقتصادها وعمل على تغيير وجه فرنسا على جميع المستويات. وهو الذي كان يقول: “إنّ كلّ إنجاز بشريٍّ كبير يكون عشوائياًّ وهشاًّ إذا خلا من الطابع الفرنسيّ” من( مُذكرات الحرب: الإنقاذ« Mémoires de guerre : le Salut ». ). ويمكن أن نقرأ في “الإعلان عن حقوق الإنسان والمُواطن” الذي حرّره أجداده الثوريون سنة 1789 في مادته الـ16 ما يلي: ” إنّ مجتمعاً ليست الحقوق فيه مضمونةً والسلطات منفصلة بعضها عن الآخر هو مجتمع بدون دستور”.

 

ويمكن لنا أن نستنبط من ذلك، فيما يخصّ حالتنا نحن، أننا نملك الوعاء لكننا لا نملك المحتوى. فنحن لا نملك دستوراً، وما ننوي مُراجعته هو الفراغ والعدم والكذب. إنّ الحُكّام يأتون ويمضون، لكن أعمالهم تبقى، وخاصة منها الأعمال السيئة والسابقات الشنيعة التي يُخلّفونها وراءهم مثل القنابل الموقوتة التي يُخفيها العدو لكي يُعاقب بها ورثة الأرض التي طُرد منها.

 

لوسوار دالجيري 25 ماي 2014

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى